الأربعاء، 10 أكتوبر 2012

الموت .. قاطع الأفراح

19 يناير 2011 

 الموت .. قاطع الأفراح
أزهري أحمد محمود
دار ابن خزيمة




الحمد لله تعالى الذي علا في سماواته. الذي جعل الموت والحياة آية من آياته. والصلاة والسلام على محمد سيد البريات. وصاحب المعجزات الباهرات. وعلى آله وأصحابه ألوية الصدق، ونسيم الأنفس الزاكيات وبعد.
أخي المسلم: رووا أن أعرابيا كان يسير على جمل له فخر الجمل ميتا! فنزل الأعرابي عنه وجعل يطوف به يتفكر فيه! ويقول: مالك لا تقوم؟، مالك لا تنبعث؟!، هذه أعضاؤك كاملة، وجوارحك سالمة!، ما شأنك؟، ما الذي كان يحملك؟!، ما الذي كان يبعثك ما الذي صرعك؟!، ما الذي عن الحركة منعك؟! ثم تركه وانصرف متفكرا في شأنه!
أخي: إنه (الموت!) مهلك العباد.. وموحش البلاد وميتم الأولاد... ومذل الجبابرة الشداد.. لا يعرف الغير.. ولا يميز بين الوضيع والوزير.. ولا يحابي صاحب المنصب الكبير.. سيوفه على العباد مصلتة.. ورماحه على صدورهم مشرعة.. وسهامه لا تطيش عن الأفئدة.
خبر علمنا كلنا بمكانه *** وكأننا في حالنا لم نعلم
أخي: إنه (الموت) كم قرح من قلوب.. وكم أوقع من كروب.. أبشع من أن يوصف! وأشد من أن يعرف!، سره مطوي من الخلائق.. لا يعلمه إلا كاشف الضر والبوائق... تبارك وتعالى وتنزه من خالق..
أخي: كأس الموت أمر من الحنظل!، لا يعرف طعمها إلا من ذاقها!، وأنى لمن ذاقها أن يوصفها على حقيقتها؟!
- لما نزل الموت بعمرو بن العاص قال له ابنه: يا أبت قد كنت تقول: إني لا أعجب من رجل ينزل به الموت ومعه عقله ولسانه كيف لا يصفه؟!
فقال: يا بني الموت أعظم من أن يوصف!، ولكن سأصف لك منه شيئا والله لكأن على كتفي جبال رضوى وتهامة!، وكأني أتنفس من سم إبرة!، ولكأن في جوفي شوكة عوسج!، ولكأن السماء أطبقت على الأرض وأنا بينهما!
أخي: يا حر قلب علم أن له يوما يتجرع فيه مرارة تلك الكأس!... أخي ألا قلت معي بقلب صادق: اللهم هون علينا سكرات الموت يوم تطوى صحائفنا! وتنقضي أيامنا!، برحمتك يا راحم المستعيذين بك... وواهب المخطئين لعفوك..
أخي: ألا أنبه ما بك من الغفلة؟ ألا أدخل الفزع في قلبك فخذ أخي هذا الوصف الفظيع للموت! قال عمر بن الخطاب -رضى الله عنه- لكعب: يا كعب حدثنا عن الموت!، قال: إن الموت كشجرة شوك أدخلت في جوف ابن آدم!، فأخذت كل شوكة بعرق منه! ثم جذبها رجل شديد القوى فقطع منها ما قطع، وأبقى ما أبقى! أخي: فيا لله كم هذا الموت فظيع وكم هو شديد وعظيم!، وروى أيضا: أن الموت أشد من ضرب بالسيوف! ونشر بالمناشير! وقرض بالمقاريض! وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق: 19]، حقا.. يا لها من سكرة ويا لها من شدة هنالك حيث الروح تحشرجت!، والأعين قد شخصت!، والقلوب قد وجفت!، والكلمات تلجلجت!، فيا لله! كم في ذلك من كربات! وكم فيه للنفوس من مصائب وبليات!
أخي في الله: أليس مما يدخل الفزع في النفوس! أن نبينا يوم أن أجاب داعي ربه سأله ربه -تعالى- أن يخفف عنه سكرات الموت؟!!، فها هي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تحكي لنا ذلك فتقول: وبين يديه ركوة أو علبة فيها ماء، فجعل يدخل يديه فيا لماء فيمسح بها وجهه يقول: {لا إله إلا الله إن للموت سكرات!} [رواه البخاري]، وللترمذي: {اللهم أعني على غمرات الموت! أوسكرات الموت!} [حسن غريب].
أخي: ما أعظم سكرات الموت!، وما أشد كرباته!، أبعد رسول الله يرجى لأحد أن يشرب كأس الموت صافيا؟!
فمثل نفسك يا مغرور وقد حلت بك السكرات! ونزل بك الأنين والغمرات!، فمن قائل يقول: إن فلانا قد أوصى وماله لا يحصى، ومن قائل قول: إن فلانا ثقل لسانه. فلا يعرف جيرانه!، ولا يكلم إخوانه!، فكأني أنظر إليك تسمع الخطاب، ولا تقدر على رد الجواب!، ثم تبكي ابنتك وهي كالأسيرة وتتضرع وتقول: حبيبي!، أبي!، من ليتمي من بعدك؟!، ومن لحاجتي؟!، وأنت والله تسمع الكلام!، ولا تقدر على رد الجواب!
وأقْبَلتِ الصُّغرى تُمرِّغُ خدَّها *** على وجْنتي حينًا وحينًا على صَدْري
وتَخمشُ خدَّيها وتَبكي بحُرْقةٍ *** تُنادي: أبي إني غُلِبْتُ على الصَّبْر
حَبيبي أبي مَنْ لليتَامى تركتَهمُ *** كأفراخ زُغْب في بعيدٍ من الوَكر
أخي المسلم: لمثل هذا اليوم! فلتعد الزاد.. لمثل هذا اليوم!، فتهجر العناد والفساد.. ولمثل هذا اليوم!، فلتتق رب العباد..
دخل الحسن البصري رحمه الله على مريض يعوده فوجده في سكرات الموت! فنظر إلى كربه وشدة ما نزل به، فرجع إلى أهله بغير اللون الذي خرج به من عندهم!
فقالوا له: الطعام يرحمك الله.
فقال: يا أهلاه! عليكم بطعامكم وشرابكم، فوالله لقد رأيت مصرعا لا أزال أعمل له حتى ألقاه!
أخي: أولئك الصالحون حقا. أخذوا في التهيؤ للرحيل.. وقد غفل الغافلون! حتى هجم عليهم الموت! فطالت الحسرات وكثرت الجراحات.. فيا لسعادة أهل الخواتم الحسنة يوم تتلقاهم الملائكة: سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [النحل: 32] وقال الله تعالى: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا [الأحزاب: 44].
قال البراء بن عازب رضي الله عنه: "فيسلم ملك الموت على المؤمن عند قبض روحه، لا يقبض روحه حتى يسلم عليه أخي في الله: إذا انكشف غطاء الحياة الفانية!، خرجت تلك الأرواح المؤمنة الطاهرة تنزف إلى بارئها تعالى.. وقد أحدقت بها الملائكة المقربون فتفتح لها أبواب السماوات!، فسيتبشر بها أهل السماوات، ويثنون على صاحبها! وهم يتنسمون ريحها الطيب! الذي يشبه عمل صاحبها!
فيا الله! ما أسعدها من لحظات لتلك الأرواح الطاهرة وكأنها تقول: وداعا دار النحس والنكد.. وداعا دار الشفاء والجهد.. وداعا أيتها الدار الدنية.. الآسنة الردية..
أخي: سلمني الله وإياك من كل سوء، تلك هي قصة الأرواح الطاهرة! وها أنا أخبرك بقصة عروجها الطاهر، كما أخبرنا بذلك النبي إذ يقول : { إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس! معهم كفن من أكفان الجنة! وحنوط من حنوط الجنة! حتى يجلسوا منه مد البصر ثم يجيء ملك الموت عليه السلام حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الطيبة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان }.
قال: { فتخرج فتسيل كما تسيل القطرة من في السقاء! فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين! حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض! } قال: { فيصعدون بها فلا يمرون يعني بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الطيب؟! فيقولون: فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كان يسمونه بها في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا، فيستفتحون له فيفتح لهم، فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها! حتى ينتهي بها إلى السماء السابعة!. فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، أعيدوه إلى الأرض فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى } [رواه أحمد وغيره، صححه الألباني].
أخي: أرأيت كيف سعدت تلك الأنفس الزكية بلقاء بارئها تعالى؟!، فما أسعدها من أرواح عاملت ربها -تعالى- في الدنيا بالصدق والإخلاص فلقاها جزاء الصادقين.. وألبسها رداء الصديقين.. ولمثل هذا فليعمل العاملون...
ثم أخي أما بلغك خبر تلك الأرواح التي تنكرت لخالقها تعالى! فكفرت بعبوديته تعالى؟!، فما هي قصتها يا ترى لقد جازاها الله -تعالى- جزاء أعدائه!، الذين أعد لهم من العذاب والنكال ما تتفطر لذكره الأفئدة! فها هو نبينا الصادق -صلى الله عليه وسلم- يخبرنا عن تلك الأنفس الخبيثة التي لم تقم بوظيفة العبودية لله -تعالى-! قال -صلى الله عليه وسلم-: {وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه! معهم المسوح فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب!} قال: {فتفرق في جسده! فينتزعها كما ينتزع السفود (حديدة يشوي بها اللحم) من الصوف المبلول! فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين! حتى يجعلوها في تلك المسوح، ويخرج منها كأنتن جيفة وجدت على وجه الأرض! فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا ما هذا الروح الخبيث؟! فيقولون: فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا! حتى ينتهي به إلى السماء الدنيا فيستفتح له فلا يفتح له! ثم قرأ رسول الله : لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف:40]. فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى فتطرح روحه طرحا! ثم قرأ: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31] } [رواه أحمد وغيره، صححه الألباني].
أخي: أرأيت كيف هو مصير أهل الخواتم الرديه؟! أعاذني الله وإياك من الخواتم السيئة.. أخي: ما أشقى روحه ملائكة العذاب! وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ [الأنعام:93].
أخي المسلم إنها منزلتان بعد الموت! لا ثالث لهما: إما لهما: إما أن تأتيك ملائكة الله تزف لك البشرى برضوان الله تعالى، وأنت يومها السعيد فزت وأفلحت.. وإما أن تأتيك ملائكة سود الوجوه تبشرك بسخط الله تعالى وسوء الخاتمة! فما أشقاك! وما أعظم خسراتك!
أخي: ألا دموع تذرفها؟! ألا زفرات تنفثها؟! ألا توجعات من بين الضلوع تخرجها؟! حقاً! قست القلوب! وران عليها غطاء الذنوب! نودع الأموات والقلوب أموات! نودع الأموات ولا عبرة ولا عظات! نودع الأموات ولا سؤال: أين القرار في النيران أو الجنات؟! نودع الأموات وها نحن قبل الممات أموات!
أخي في الله: إنه (كأس الموت!) وهو حكم الحي الذي لا يموت تبارك وتعالى.. فهل تذكرت أخي أنك ستتجرع يوما هذا الكأس حتى النهاية؟!!
أخي: (إنه هادم اللذات!) دعاك النبي إلى كثرة تذكرة إذ يقول : { أكثروا ذكر هاذم اللذات } [رواه الترمذي ونسائي، المحدث: الألباني، حسن صحيح، صحيح الترغيب 3333].
أخي: أتدري ما معنى: (هادم اللذات؟!) إنه قاطعها ومعدمها! حقا! أنه مزيل النعم... وقاطع اللذات! فهل من معتبر؟!
أخي: تذكر الموت يورث صدق الإقبال على الله تعالى ويمحو عن القلب آثار الدنيا! قال الدقاق: ( من أكثر من ذكر الموت أكرم بثلاثة أشياء: تعجيل التوبة، وقناعة القلب، ونشاط العبادة ).
أخي: ألا تنضم إلى قافلة أهل الصائر؟! الذين كان ذكر الموت شعارهم.. ومحاسبة النفس دثارهم.. فهنيئاً أخي لمن كان في ركابهم! وهاهم يمرون فيملأون النفس عظة وذكرى..
- فهذا سفيان الثوري رحمه الله كان إذا ذكر الموت لا ينتفع به أياما! فإن سئل عن شيء، قال: ( لا أدري! لا أدري! ).
- وقال التيمي رحمه الله: ( شيئان قطعا عني لذة الدنيا: ذكر الموت! وذكر الموقف بين يدي الله تعالى! ).
- وكان محمد بن واسع رحمه الله إذا أراد أن ينام قال لأهله قبل أن يأخذ مضجعه: أستودعكم الله! فلعلها أن تكون منيتي التي لا أقوم فيها! فكان هذا دأبه إذا أراد النوم.
أخي المسلم: تلك هي حال الصالحين.. عرفوا أنهم لهم يوما يفارقون فيه دار الغرور! فتذكروا ساعة الرحيل.. وأعدوا الزاد للسفر الطويل..
أخي: يا ترى ما الذي دهانا؟! قد أطبقت الغفلة على القلوب وما تركت فيها موضعا لتذكر ذلك اليوم الموهوب.
أخي: هذا لمن سمع ندائي:
إخواني ما هذه السنة وأنتم منتبهون؟!
وما هذه الحيرة وأنتم تنظرون؟!
وما هذه الغفلة وأنتم حاضرون؟!
وما هذه السكرة وأنتم صاحون؟!
وما هذا السكون وأنتم مطالبون؟!
وما هذه الإقامة وأنتم راحلون؟!
أما آن لأهل الرقدة أن يستيقظوا؟! أما حان لأبناء الغفلة أن يتعظوا؟! واعلم أن الناس كلهم في هذه الدنيا على سفر! فاعمل لنفسك ما يخلصها يوم البعث من سقر!
آن الرحيل فكن على حذر *** ما قد ترى يغني عن الحذر
لا تغترر باليوم أوبغد *** فلرب مغرور على خطر
أخي: أليس من العجيب أن تودع كل يوم ميتا! ثم لا يحرك ذلك قلبا؟! ولا يثير خوفا أو فزعا؟! بل كان الموت مكتوب على هذا المشيع وحدة! أخي كم هي هذه الغفلة قبيحة! وكم هي كريهة وشنيعة! إنه عمى القلوب! وما أسوأه من عمى: فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج: 46].
قال الربيع بن برة: "عجبت للخلائق كيف ذهلوا عن أمر حق! تراه عيونهم، وتشهد عليه معاقد قلوبهم، إيمانا وتصديقا، بما جاء به المرسلون. ثم ها هم في غفلة عنه سكارى يلعبون!".
أخي في الله: تذكر الموت أنفع دواء للغفلة! فيا لهف نفسي إن لم يشفك ذلك أخي فأي دواء يشفيك؟! أم أي ترياق ينجيك؟! أخي: حقا! إن غطاء الغفلة شر غطاء! وإن رداء الغفلة شر رداء.. ومن لبسه اجتمعت عليه الأدواء.
أخي: إذا شغلتك الدنيا! فتذكر الموت.. فإنك راحل! ولن تجد أخي لتلك النفس سوطا أشد عليها من تذكر الموت! فإنه السوط الرادع الذي لطالما ضرب به الصالحون قلوبهم فارتدعت! وعادت طيعة... ذلولة إذا سلكت سبيل الطاعات! ونفورة... جامحة إذا دنت من سبيل المعاصي والخطايا!
"فتفكر يا مغرور في الموت وسكراته! وصعوبة كأسه ومرارته! فيا للموت من وعد ما أصدقه!، ومن حاكم ما أعدله! كفى بالموت مقرحا للقلوب!، ومبكيا للعيون ومفرقا للجماعات!، وهادما للذات!، وقاطعا للأمنيات!
فهل تفكرت يا بابن آدم في يوم مصرعك وانتقالك من موضعك؟!، وإذا نقلت من سعة إلى ضيق! وخانك الصاحب والرفيق! هجرك الأخ والصديق! وأخذت من فراشك وغطائك إلى غرر! وغطوك من بعد لين لحافك بتراب ومدر!، فيا جامع المال والمجتهد في البنيان! ليس لك والله من مال إلا الأكفان!، بل هي والله للخراب والذهاب! وجسمك للتراب والمآب! فأين الذي جمعته من المال؟!، فهل أنقذك من الأهوال؟!، كلا بل تركته إلى من لا يحمدك!، وقدمت بأوزارك على من لا يعذرك!!" الإمام القرطبي.
أخي: إن طوال الأمل خلف كل بلية!؛ فالكل إذا أصبح ومسح النوم عن عينيه قتل الحبال الطوال من الآمال!
فيا لله... لقد افترشنا الآمال!، والتحفنا الآمال!، وتوسدنا الآمال!، لا الكبير يرده دنوه من الأجل!، ولا الصغير يرتدع بموت من هو في الصغر!
أتَطْمَعُ أنْ تُخَلَّدَ لا أَبالَكْ *** أَمنْتَ من المنِيَّةِ أَنْ تَنَالَكْ
أَمَا والله إنَّ لَهَا رَسُولًا *** وأَقْسمُ لو أتَاكَ لما أَقالَكْ
كأنِّي بالتُّرابِ عَليكَ رَدْمًا *** وبالبَاكينَ يَقْتَسمُونَ مَالَكْ
فَلَسْتَ مُخَلِّفًا في النَّاس *** ولا مُتَزَوِّدًا إلاَّ فِعَالَكْ
أخي: تذكر الموت ترياق نافع لعلاج داء (طول الأمل!).
فقد جاء أن امرأة جاءت إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تشكو إليها قساوة قلبها! فقالت لها عائشة رضي الله عنها: ( أكثري من ذكر الموت يرق قلبك! ) ففعلت المرأة ذلك، فرق قلبها! فجاءت تشكر عائشة رضي الله عنها.
أخي: ما أطال أحد الأمل إلا وركن إلى دنياه الفانية فأفنى أيامه في غير الطاعات.. وأضاع ساعات عمره في أحلام الأمنيات.
قال الحسن البصري رحمه الله: ( ما أطال عبد الأمل إلا أساء العمل! ).
أخي: وقف عند هذه القصة مع الصالحين يعلمونك: ما هو طول الأمل؟!
ففي لقاء جمع القلوب المؤمنة وهي تؤدي الصلاة، وفي الجمع قدوة الزهاد، وزينة العباد معروف الكرخي رحمه الله فأقام معروف الصلاة ثم قال لمحمد بن أبي توبة: تقدم.
فقال محمد: إني إن صليت بكم هذه الصلاة لم أصل بكم غيرها.
فقال معروف: وأنت تحدث نفسك أن تصلي صلاة أخرى؟! نعوذ بالله من طول الأمل فإنه يمنع خير العمل!
أخي المسلم: كم مضى من الدنيا؟!، وكم هلكت من أجيال وأمم؟!
أخي: كم مرت عليك من الأيام؟!، كم مرت عليك من الشهور؟!، كم مرت عليك من الأعوام؟
أخي : كم من ميت من إخوانك وأحبابك أودعته في جوف الثرى؟!
أخي : كم مرة في يومك أو شهرك أو سنتك تذكرت الموت؟!
أخي : كم مرة في حدثتك نفسك أنك قد تموت اليوم أو غدا؟!
أخي : كم من العمر مضى وانت تؤمل الآمال العراض؟!
وهل بلغت كل كما تؤمل؟! وإن هل وقفت بك الآمال عند أملك؟!
أخي : تذكر... ثم تذكر.. وإليك: "للعبد رب هو ملاقيه، وبيت هو ساكنه، فينبغي له أن يسترضي ربه قبل لقائه، ويعمر بيته قبل انتقاله إليه" الإمام ابن القيم.
أخي : هو الموت!، زائر غير محبوب... ووارد غير مرغوب وقريب غير مطلوب... قاطع اللذات.. ومفرق الجماعات ومبدد الأمنيات..
أخي : كن على حذر! وهل يغني الحذر؟! ما بقى أخي غير العمل الصالح فهو خير زاد.. وخير رفيق يوم المعاد.. وروضتك يوم الرقاد.. وأنيسك إذا تفرق عن قبرك العباد.. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

كي يظل قلبك حياً ..

19 يناير 2011 

كي يظل قلبك حياً  
دار ابن خزيمة


الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين ، أما بعد :
فإن القلب هو جوهر الحياة في الإنسان، فبحسب حياته وسلامته ونقائه؛ تكون حياة الإنسان وسلامته ونقاؤه، وهذه الحقيقة كما تدل عليها الشواهد الشرعية تقررها النظريات العلمية والفلسفية في سائر المِلل عبر التاريخ.
ومن هنا فإن المسلم الحكيم هو من يفتش عن أسباب صلاح قلبه، وأسباب قوته وعافيته؛ لأنه يدرك أنه متى امتلك قلبًا سليمًا من الآفات؛ فقد امتلك الحياة وامتلك نقاءها وجمالها.
وهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيّن أنّ السلامة والصلاح في الإنسان مرتبطة بصلاح قلبه فيقول: {ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي: القلب} الحديث [رواه: النعمان بن بشير، المحدث: الألباني، صحيح الترغيب، رقم: 1731].
أخي الكريم: إن قلبك هو مفتاح السعادة والغنى، ووعاء السلامة والهدى، ومصدر القوة والرضى، ولَحرصك على صفائه ونقائه، أهم بكثير من حرصك على الهواء والطعام. فكيف تجعل قلبك سليمًا نابضًا بالإيمان والحياة؟
أولًا: كن صاحب عقيدة
فتوحيد الله -جلّ وعلا- نور يملأ القلوب، ويبصِّرها، ويقويها، فهو مادة حياته، وأساس قوته وسلامته، ولا حياة للقلب إلا بالإيمان بالله -جلّ وعلا- ذلك الإيمان الذي يصنع الطمأنينة في القلوب، والسكينة في النفوس؛ لأنه يولِّد فيها من التوكل على الله ما تهون أمامها الصِّعاب:وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق: 3]، ويولِّد فيها من الثقة بالله، واليقين به ما تزول به الهموم والغموم والأحزان، ويولِّد فيها من البصيرة والهدى ما يجعلها أكثر ثباتًا، وقدرة على مواجهة الصِّعاب، كما قال -تعالى-: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [التغابن: 11].
فالإيمان بالله -جلّ وعلا- نور يسري في قلب المؤمن، يضيء له الطريق، ويمكنه من الثبات عليه؛ فيرى به الأشياء على حقيقتها: القبيح قبيحًا، والحسن حسنًا.
أخي الكريم: اعلم أن السعادة والحياة الطيبة في الحياة لا تقوم إلا على أساس واحد هو: الهدى. كما قال -تعالى-: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا (124) [طه].
ثم اعلم أن محل الهدى هو القلب، وأنّ هذا المحل لا يمكنه حمل الهدى إلا إذا كان فيه من الإيمان واليقين ما يؤهله لذلك؛ ولهذا قال -تعالى-: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [التغابن: 11].
ومن هنا فإن تحقيق الهداية مشروط بتحقيق العقيدة الصحيحة، والإيمان النقي من شوائب الشرك بالله، وعلى قدر معرفة المؤمن بربّه، ويقينه به، تكون بصيرته وخشيته وهدايته كما قال -تعالى-: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء [فاطر: 28].
وإذا تأملت أخي في تأثر القلوب بذكر الله، ووجلها من الله؛ وجدت ذلك التأثر لا يحصل إلا للقلوب المؤمنة، كما قال -تعالى-: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد: 28]، فعطف -سبحانه- في هذه الآية اطمئنان القلوب بالذكر على الإيمان، وهو ما يدل على أن قلب المؤمن أعقل حين سماع ذكر الله؛ للمعاني التي يتضمنها الذكر، وهو ما يجعله متأثرًا به، وأبصر بالآيات والحقائق الغيبية؛ لذلك، إذا ذكر الله، أبصر عيبه وأبصر عظمة الله، وأبصر قدرته ورحمته وصفاته العليا، وأبصر تقصيره، وضعفه؛ فأورثته بصيرة قلبه ذلك التأثر الحاصل حين سماع ذكر الله، بعكس ضعيف الإيمان الذي مات إحساس قلبه، فلا يسمع ولا يعقل كما قال -تعالى-: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا [الأعراف: 179]، وكما قال -تعالى-: أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد: 24] ، وكما قال -تعالى-: فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج: 46].
فقلب المؤمن قلب عاقل، لا تخدعه مظاهر الأشياء لأنه لا يرى بعينه فقط، وإنما بقلبه أيضًا، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: {إن العقل في القلب، والرحمة في الكبد، والرأفة في الطحال، والنفس في الرئة} [المحدث: الألباني، صحيح الأدب المفرد برقم: 425]. ولأن قلب المؤمن منور بتوحيد الله؛ فإنه أعقل بالآيات الكونية والشرعية، ولذلك قال -تعالى-: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال: 2].
قال الشيخ عبد الرحمن السّعدي: "فوصف الله المؤمنين بهذه الصفات المتضمنة للقيام بأصول الدين وفروعه، وظاهره وباطنه، فإنه وصفهم بالإيمان به إيمانًا: ظهرت آثاره في عقائدهم، وأقوالهم، وأعمالهم الظاهرة والباطنة، وأنه مع ثبوت الإيمان في قلوب - يزداد إيمانهم كلما تليت عليهم آيات الله، ويزداد خوفهم ووجلهم كلما ذكر الله؛ وهم في قلوبهم وسرهم متوكلون على الله" (التوضيح والبيان لشجرة الإيمان ص15).
ثانيًا: فرِغ قلبك من الشواغل والأخلاط
1- تقلب القلب: أخي إن الإيمان بالله -جلّ وعلا-، والتوكل عليه، واليقين به كل ذلك يولِّد في القلب قوة، وبصيرة وعقلًا يزن بها الأمور، ويحقق بها الهدى ليعيش آمنًا من شرور الغي وطرق الردى. لكن سنة الله اقتضت أن يظل المؤمن في تنازع، ومكابدة ليظل قلبه ثابتًا على الإيمان والتقوى، لكن المؤمن مهما كانت قوة إيمانه؛ فلابد له من غفوة وضعف، فإنما سمي القلب لشدة تقلبه، وعدم ثبته على حاله، كما قال الشاعر: وما سمي الإنسان إلا لأنسه *** ولا القلب إلا أنه يتقلب
وأحسن منه قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: {إنما سمي القلب من تقلّبه، إنما مثل القلب مثل ريشة بالفلاة، تعلّقت في أصل شجرة، يقلّبها الريح ظهرًا لبطن} [الراوي: أبو موسى الأشعري، المحدث: الألباني، صحيح الجامع رقم: 2365]. وهذا التقليب الذي هو أخص صفات القلب، هو منشأ كون الإنسان موصوفًا بالظلم والغدر والخطأ؛ فإنه متقلب في أحواله، متغير في صفاته، تغلبه الشهوة، كما تلتبس عليه الأمور بالشبهة، ويطغى عليه النسيان كما يتمادى به الهوى والطغيان، وتغره المتاع، كما تقهره الطباع، فهو لسبب أو لآخر متقلب في طبعه.
2- تطهير القلوب بالتوبة: وهذا التقلب في الإنسان، ما خلقه الله -جل وعلا- إلا ليبتليه بخطئه كما يبتليه بصوابه، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: {والذي نفسي بيده! لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله، فيغفر لهم} [الراوي: أبو هريرة، المحدث: مسلم، صحيح].
وليطلعه على رحمته إذا هو تبصَّر بذنبه وعاد إلى الله تائبًا طائعًا، ومن هنا أخي لابد أن تعلم أنك في كل وقت وحين في حاجة إلى تجديد التوبة والإكثار من الاستغفار؛ فإنهما يطهران القلب من شوائب المعاصي وآثارها وسوادها، ولهذا أوصى الله -جل وعلا- عباده المؤمنين بالتوبة، وجعلها أساس فلاحهم فقال: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور: 31].
وفي الحديث قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: {تعرض الفتن على القلوب عرض الحصير عودًا عودًا، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء حتى يصير القلب أبيض مثل الصفا، لا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود مربدًّا كالكوز مجخيًا لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا، إلا ما أشرب من هواه}[الراوي: حذيفة بن اليمان، المحدث: الألباني، صحيح الجامع رقم: 2960].
رأيت الذنوب تميت القلوب *** وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب *** وخير لنفسك عصيانها
أخي الكريم: فإذا علمت أن الذنوب تمرض القلوب، وتطمس بصيرتها، وتعطل عقلها، فاحرص على تطهير قلبك من أمراض المعاصي باجتنابها، وملازمة التوبة والاستغفار لإبطال مضراتها، فإن قوة قلبك وسلامته مرهونة بصفائه ونقائه، وإنما ينقى قلبك بثلاثة أشياء:
الأول: بالتوبة إلى الله، والاستغفار من الذنب.
الثاني: بالإكثار من الحسنات، فإنهن يذهبن السيئات، كما قال -تعالى-: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود: 114].
الثالث: الحرص على أسباب المغفرة، كالصلاة، والنوافل، والوضوء، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، والعمرة والحج، ونحو ذلك من موجبات المغفرة المبسوطة في كتب الفضائل والسلوك.
فقد أوصى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معاذًا فقال له: {اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن} [الراوي: معاذ بن جبل و أبو ذر الغفاري، المحدث: الألباني، حسن].
3- تطهير القلب من الأمراض: فإن طهارة القلب من أمراضه، وخلوّه من أعراضها، هو أعظم أسباب قوته ولينته ورقته وخشوعه، وصاحبه هو خير الناس وأحبهم إلى الله، كما في الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : قلنا: يا نبي الله من خير الناس؟ قال: {ذو القلب المخموم، واللسان الصادق، قال: قلنا: يا نبي الله! قد عرفنا اللسان الصادق، فما القلب المخموم؟ قال: هو التقي النقي؛ الذي لا إثم فيه، ولا بغي ولا حسد، قال: قلنا: يا رسول الله! فمن على أثره؟ قال: الذى يشنأ الدنيا، ويحب الآخرة. قلنا: ما نعرف هذا فينا إلا رافع مولى رسول الله، فمن على أثره، قال: مؤمن في خلق حسن} [الراوي: عبدالله بن عمرو بن العاص، المحدث: الألباني، صحيح].
فها هنا بيّن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- طريق نقاء القلوب وحقيقتها، وجمع بيانه ثلاث صفات هي: اجتناب الإثم، والبغي، والحسد.
فهذه الصفات هي من أخطر أمراض القلوب، والتي ما أصابت قلبًا إلا ملأته سوءًا، وظلمة، وطمست نوره وأضعفت بصيرته.
وإذا كانت الآثام تنكت نكتات سوداء في القلوب، فإن الحسد يأكل حسناتها الموجبة لنقائها كما تأكل النار الحطب.
"والحسد هو: تمني زوال نعمة المحسود، أو هو البغض والكراهية لما يراه من حسن حال المحسود، وهو طبع لئيم يسكن القلوب الضعيفة الميتة مهما كان شأن أصحابها، فلربما وجدت الضعيفة الميتة -مهما كان شأن أصحابها- فلربما وجدت المرء قد ملك من صفات الحسن، وأسباب الملك ما لم يملكه غيره؛ لكنه لغلبة طبعه الحاسد لا يحب رؤية النعمة على غيره".
أخي الكريم: واعلم أن الحسد هو من الاعتراض على حكم الله -سبحانه-، كما قيل: "من رضي بقضاء الله لم يسخطه أحد، ومن قنع بعطائه لم يدخله حسد".
قال بعضهم: "ما رأيت ظالمًا أشبه بمظلوم من الحسود؛ نفس دائم، وهم لازم، وقلب هائم". وإذا تأملت في قول الله -جلّ وعلا-: وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ [الفلق: 5]؛ علمت أن الحسد طبع غالبًا ما يتسلل إلى القلوب، لكن القلوب الحية بالإيمان تبصر شعاعه، فتعكسه وتطرده وترده خائبًا، لكن القلوب الضعيفة تستجيب؛ ولذلك قال -تعالى-: وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ [الفلق: 5].
قال ابن تيمية: "ما خلا جسد من حسد، ولكن اللئيم يبديه والكريم يخفيه".
قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: {لا تقاطعوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخوانًا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث} [الراوي: أنس بن مالك، المحدث: الألباني، صحيح].
واعلم أخي أن الحسد كما يوجب قسوة القلب، ولؤم الطبع، وفساد الأخلاق، فهو يعطل القلب من اكتساب أعظم الثواب، إذ القلب الخالي من الحسد مملوء ولابد بالخير؛ فلا تجد صاحبه إلا يحدث نفسه بفعل الخيرات، وإن عجز عنها، قد سارت به نيته الصافية، وحبه لنفع العباد، ما لم تسر الصلوات والقربات بالعباد!.
وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: {إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكلّ امرئ ما نوى} الحديث [رواه: عمر بن الخطاب، المحدث: الألباني، صحيح].
أخي: فإن رُمت القلب الطاهر، فوطن نفسك على الصبر، وجاهد نفسك في بذل النفع للعباد، تُحسن إلى من أساء إليك، وتصل من قطعك، وتعطي من منعك، وتسامح من آذاك، في الحديث قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: {المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم} [الراوي: عبدالله بن عمر، المحدث: ابن حجر العسقلاني، إسناده حسن].
فكما أن تطهير قلبك من الحسد يوجب لك النقاء والسلامة، فهكذا صبرك على الحسود، واحتمالك لأذاه، وإحسانك إليه؛ يوجب لك الخيرية والراحة والنصر، كما يمتص حسد الحاسد ويرده، فإن الغالب في الناس أن الإحسان يمتلك قلوبهم، ويردهم إلى رشدهم.
كما قال الشاعر:
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم *** فطالما استعبد الإنسان إحسان
وأحسن منه قول الله -جل وعلا-: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت: 34].
4- أغن قلبك بالقناعة: فإن الحرص يسبب الفقر للقلب، ويحدث فيه فاقة لا يسدّها شيء أبدًا، أما القناعة والرضى بما كتبه الله من الرزق؛ فيوجب للقلب الغنى، ويولِّد فيه الطمأنينة والسكينة، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأبي ذر: {يا أبا ذر أترى كثرة المال هو الغنى؟ قلت: نعم يا رسول الله! قال: فترى قلة المال هو الفقر؟ قلت: نعم يا رسول الله! قال: إنما الغنى غنى القلب، والفقر فقر القلب} [الراوي: أبو ذر الغفاري، المحدث: الألباني، صحيح الترغيب برقم: 3203].
والقناعة متى سكنت القلوب؛ أصابها الخير كله، وسلِمت من آفات الشح والحرص والبخل، وهي من أخطر الأمراض الفتاكة قال -تعالى-: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [التغابن: 16].
وعن جابر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: {واتقوا الشح، فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم} [الراوي: جابر بن عبدالله، المحدث: مسلم، صحيح].
والشح: هو شدة الحرص.
ومن ينفق الأيام في جمع ماله *** مخافة فقر فالذي فعل الفقر
ولا تحسبن الفقر فقر من الغنى*** ولكن فقر الدين من أعظم الفقر
أخي الكريم: واعلم أن العناية بمقويات القلب وأسباب عافيته أكثر من أن تحصر في هذا الكتاب، ولكن عليك بكثرة ذكر الله بعد أداء فرائضه؛ فإنه أعظم عون لك على طهارة قلبك، فإنك إن داومت على ذكر الله تسبيحًا، واستغفارًا، وتهليلاً، وتكبيرًا؛ وجدت أثر ذلك واضحًا على قلبك، فإن زدت حرصًا على الصيام واجتنبت كثرة النوم والأكل والكلام والضحك؛ نلت عافية قلبك وسلامته.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.