العيون المليانة
كنت أتوقع أن صديقي سيتأخر قرابة النصف ساعة في معهد ليلي وأنني سأعود قبل خروجه من الحصة الأخيرة ، فلم أهتم بإبلاغه ..
وفي الطريق إلى السوق حكت لي قصتها ..
تقول بأنها أم لسيدة مات عنها زوجها وتركها مع عدد من الأطفال ، أكثرهم في سن المدرسة .. وهي تعيش مع ابنتها وأحفادها في مأوى ( رباط ) وفـّـره أهل الخير لها ولمقطوعات مثلها .. وهي لا تشكو ، بل الحمد لله على الستر وتفخر بأن أحفادها كلهم " أولاد مدارس " ، من البيت إلى المدرسة إلى المسجد .. (وماهم عيال شوارع وقهاوي ، وقلة أدب ، مربين أحسن تربية ، وعينهم مليانة من كل شئ) كما تقول ..
وتفصّـل في مسألة العين المليانة فتقول : أنا وابنتي حريصين على الأولاد يكونوا دايماً شبعانين ، ومافي في نفسهم شئ ، وما تنقصهم حاجة ، والحمدلله الخير كثير ، والأولاد ماهم حاسين بأي نقص ، الله يديم المعروف ..
وبقيت أسمع فخرها بأحفادها ، والخير الذي هم غارقين فيه ، حتى وصلنا السوق .. قلت لها بأنني سأعيدها إلى البيت ، وانتظرت أراقبها وهي تفاصل مع بائع الجبنة والعيش ، ثم تشتري قليلاً من الجبن والطحينة وأربعة أقراص سميط ..
سألتها بعد أن عادت : هذا هو العشاء ؟
قالت : ويزيد للفطور ، بركة ، ياولدي ، بركة ..
أحسست يغصة في حلقي ، وكرهت أن يكشفها صوتي فسكت ..
ثم عدت أسألها بعد أن استعدت حديثها عن العيون المليانة و (العيال اللي مو ناقصهم شئ): بس يا أمي هذا لوحده يكفي؟ ولاّ عندكم شئ غيره؟
قالت : الجود من الموجود ، والبطر ماهو طيب ياولدي .. الحمدلله ، ناس ماهي محصلة أكل ، وإحنا بنفطر ونتغدى ونتعشى ، وليالي الجمعة بيجينا رز ولحم من العزايم وقصور الأفراح .. كل شئ بناكل منه ، مو ناقص علينا شئ ..
قلت : واللبس ؟
قالت : كل سنة بيرسلوا لنا أهل الخير هدوم نظيفة .. يمكن بعضها ناقص زر ولا سستة ، بس أهو طيب ومقبول ، واللي يحتاج تصليح بنصلحه .. يعني اللي يشوفه ما يقول عليه قديم ..
قلت : والسكن؟ كم غرفة؟
قالت : هي غرفة بس "بــــــراح" و "هـــــــاوية" ، ما تحتاج حتى مروحة .. وفي الحر عندنا مراوح سعف ، ولاّ بـنـقعد في الفسحة مع الجارات صبح ومساء ، نعمة ولله الحمد ..
قلت : وكم أنتم ؟
قالت: أنا وأمهم وثلاث بنات وأربعة أولاد ، الله يطرح البركة ..
تركتها تعود إلى حديثها عن الخير والنعمة حتى وصلنا إلى بيتها ، وعدت وأنا أستعرض شكوى أهلي من ضيق البيت بغرفه الأربع ، وقلة مصروف الأكل الذي يذهب كثير منه إلى مرامي البلدية ، وقدم الملابس التي لم يمر على بعضها شهور ، فخجلت .. وخجلت .. وبكيت ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق