السبت، 26 فبراير 2011

مريم العذراء في العهد الجديد - والقرآن \ الائتلاف والاختلاف

مريم العذراء في العهد الجديد
والقرآن \ الائتلاف والاختلاف

















يتفق كل من العهد الجديد والقرآن على وضع مريم العذراء في مكانة خاصة بين نساء العالمين. فهي التي اصطفاها الله كي تحمل من نفخة من روحه وتنجب المسيح. ويتفقان (أيضا) في أن مكانتها المميزة دوما بين النساء، لم ولن تضاهيها مكانة امرأة غيرها تقديرا وتقربا بين المؤمنين المسيحيين والمسلمين على مرّ العصور. فهذه الأسس كتابية ولا يمكن لأحد من المؤمنين من كلا الطرفين تجاوزها مهما بلغت اختلافات وتطور فهمها. ويتفقان (أيضا) على عدم ذكر تاريخ ميلادها، وأنها حملت بالمسيح وولدته وهي لا تزال عذراء. ويتفقان على عدم ذكر شيْ عن وفاتها.










إلا انهما- أي العهد الجديد والقرآن- يختلفان في أمور عدة:


1- يذكر القرآن اسم مريم كاسم نسائي وحيد، وقد أفرد لها سورة تحمل اسمها تقص روايتها (سورة مريم)، مع أن هنالك أجزاء من قصتها ذكرت في مواضع أخرى فيه. وهناك سورة في القرآن باسم أهلها أيضا (سورة آل عمران)، أما العهد الجديد فيذكر عددا من النساء، ومريم إحداهن.


2- يعتبر العهد الجديد أن مريم من نسل داود، والقرآن يعتبرها من آل عمران. وبالرغم من قرابة النسلين، فإن هنالك اختلافا في عدد الأجيال وترتيب الأشخاص.


3- يذكر القرآن قصة نذر أمها عندما كانت حاملا بها، أما العهد الجديد فلا.


4- يذكر القرآن قصة تعبدها باعتباره جزءاً من سيرتها الذاتية (قبل البشارة) أما العهد الجديد فلا، باستثناء تلميح بسيط للغاية، وهو زيارتها إلى نسيبتها اليصابات.


5- يذكر العهد الجديد أنها مخطوبة إلى يوسف، وهو الآخر من نسل داود ويمتهن النجارة، وقد رافقها من الناصرة إلى بيت لحم ومصر وأورشليم1، وأعالهما. أما القرآن فلا يذكره بالمرّة.


6- يحدد العهد الجديد أن مكان بشارتها باختيار الله لها كان في الناصرة. أما القرآن فيحدده مكانا "وراء الحجاب، ومكانا شرقيا"، نسبة إلى أهلها.


7- يحدد العهد الجديد المكان التي وضعت به وليدها كان بيت لحم. أما القرآن فيحدده مكانا قصيا عند جذع النخلة.


8- ويذكر العهد الجديد أنها هاجرت وابنها إلى مصر خوفا عليه من النظام السياسي في حينه. أما القرآن الكريم فلا.


9- يذكر القرآن الكريم كرامات لم يذكرها العهد الجديد؛ الأكل من النخلة اليابسة، الشرب من جدول كان يجري على مقربة منها.


10- يروي العهد الجديد عن حياتها ومرافقتها لابنها أثناء كرازته بين الناس. أما القرآن فلا.


11- في العهد الجديد نقرأ نشيدا هاما لمريم "تعظم نفسي الربّ" تعبر فيه عن فهمها للخلاص المسياني وللتحول الذي سيحدث، والذي سيأتي به ابنها المسيح. أما القرآن فلا يذكر شيئا من هذا القبيل.










هذه هي المحاور الأساسية لقصة ومكانة مريم في كل من العهد الجديد والقرآن.










تهدف الدراسة إلى صياغة شخصية مريم وفقا لما وردت في كل من العهد الجديد، على حدة، والقرآن الكريم، على حدة. ثم شرح ما هو مؤتلف وما هو مختلف من الأوصاف. وسوف نرى أن ما هو مشترك أكثر مما هو مختلف، حتى ليمكن القول إن الأصل واحد. وسوف نرى أن مكانتها متشابهة ومتطابقة تطابقا دقيقا في كلا النصيّن. أما الأبعاد المختلفة في شخصيتها في العهد الجديد والقرآن الكريم، فيرفد كل منها الآخر ويساعد على إكمال الشخصية واكتمالها. تتوزع الدراسة على:










الفصل الأول- شخصية مريم في العهد الجديد


لا شكّ أن مريم (أم يسوع المسيح) هي أهم شخصية نسائية في العهد الجديد والحياة المسيحية. فهي المرأة الوحيدة التي يذكرها العهد الجديد بأنها حبلت دون علاقة جنسية. ومريم كما يصورها العهد الجديدة امرأة شديدة الإيمان والتقوى تمارس كافة الطقوس الدينية اليهودية، وتزيدها من طقوس الرجال. ويصورها أيضا بأنها امرأة تعي وتدرك جيدا أهمية ابنها ورسالته، لذا تسعى دائما إلى دعمه وحمايته والأخذ بيده حتى يبلغ سن الرشد ويصبح مؤهلا لتطبيق الشريعة. وعندما يكبر ويبدأ بالكرازة فإنها تدأب على الاطمئنان عليه مثل بقية الأمهات، بالرغم من فهمه المستقل لرسالته.










قسمنا هذا الفصل إلى عشرة مباحث، وسوف نشرحها بالتفصيل ولكن ليس بأحجام متساوية، وإنما سوف نسعى إلى استيفاء الشرح والتحليل دون إطالة أو حشو. والمباحث هي:










المبحث الأول: نسبها – وفيه نتقصى أثر نسبها الداودي نحلل روايتي متّى ولوقا اللتين تختلفان في بعض التفاصيل. وكذلك البحث في أسفار العهد الجديد والتوراة لتأكيد نسبها الداودي.










المبحث الثاني: أُسرتها وحياتها قبل البشارة-وهو محاولة لاستخلاص كل المواد الواردة في العهد الجديد، التي تروي بأن مريم من أسرة صدّيقين وصالحين، ودأبت على تطبيق كل ما ورد في الناموس، وقامت بتطبيق واجبات أخرى لم تكن مفروضة على النساء.














المبحث الثالث: بشارتها- بشارة الملاك لها بالولادة المعجزية. نتحدث فيه عن مكان البشارة، والحالة النفسية الإنسانية (الاضطراب) التي رافقتها. ونتحدث (أيضا) عن بشارة أليصابات، زوجة زكريا بأنها ستلد يوحنا المعمدان. فبشارة مريم هي البشارة المركزية، وبشارة أليصابات هي البشارة التمهيدية.










المبحث الرابع: نشيدها- عقب البشارة أنشدت مريم نشيدا هاما، تبرز فيه منظومتها المعرفية المشيحانية، ويتحدث النشيد عن فكرة الخلاص كما تفهمه.










المبحث الخامس: حملها وولادتها- كانت فترة حمل مريم وولاتها عاديين للغاية كبقية النساء. إلا أنها عانت من الظروف التي أحاطت بها وذلك بسبب حملها وولادتها المعجزية. وقامت أيضا بجميع الفرائض التي تفرضها الشريعة على الوالدة... تقديم زوجي يمام1 وختان يسوع.














المبحث السادس: هجرتها (ويسوع ويوسف)إلى مصر- عندما علمت مريم (ويوسف) بأن النظام السياسي يهدد حياة المولود هاجرا إلى مصر حفاظا عليه. ومن أجل اللقاء بالمصريين الذين كانوا يتوقعون مجيء المسيح المخلص.










المبحث السابع: مريم (ويوسف) يرافقان يسوع إلى الهيكل- ولأن مريم كانت تعي أهمية دخول ابنها في سن تنفيذ الشريعة، أخذته إلى أقدس الأمكنة عند اليهود، هيكل أورشليم، كي تقيم الطقس الذي يؤهله للدخول في تنفيذ الشريعة. هذا الطقس يسمى (ברמצווה)1 بالعبرية، وهو طقس "التثبيت".










المبحث الثامن: مريم ترافق يسوع المسيح في كرازته وحتى قيامته- حتى عندما بلغ يسوع المسيح سن الثلاثين وبدأ بالكرازة، لم تفارقه، فقد سعت دائما إلى الاطمئنان عليه.










المبحث التاسع: مريم و"اخوة" و"أخوات" يسوع المسيح- في هذا المبحث سوف نبين من هم هؤلاء أل"اخوة" وأل"أخوات".










المبحث العاشر: مكانتها- وفيه نشرح أن مريم هي أهم امرأة في العهد الجديد. وتطور شخصيها من خلال العلاقة بيسوع المسيح، وحضورها المكثف في حياته حتى يبلغ سن التكليف واختفائها أثناء قيامته. ونشرح (أيضا) معنى بتوليتها الدائمة.










الخلاصة: نستعرض فيها القضايا التي توصلنا إليها في هذا الفصل.














الفصل الثاني- مريم في القرآن


لا شكّ أن مريم (أم عيسى المسيح) هي أهم امرأة في القرآن. فقد اختارها الله لأن تحمل من روحه وتلد عيسى المسيح. فهي "شخصية محسومة في خط الخير والإيمان منذ طفولتها الأولى، بل قبل أن تولد، وهي الشخصية النسائية الوحيدة في القرآن التي حظيت بالاصطفاء والاختيار الإلهيين اللذين لم يحظ بهما سوى الأنبياء في القرآن!* ". فأفرد لها سورة تحمل اسمها، وسورة أخرى تحمل اسم نسبها. فالقرآن لم يذكر امرأة بالاسم إلا هي. وتهدف سورة مريم إلى "تثبيت العقيدة في النفوس" و"بيان اتصافه سبحانه بشمول (الرحمة) بإضافة جميع النعم على جميع خلقه، المستلزم للدلالة على اتصافه بجميع صفات الكمال، المستلزم لشمول القدرة على إبداع المستغرب، المستلزم لتمام العلم، الموجب للقدرة على البعث، والتنزه عن الولد، لأنه لا يكون إلا لمحتاج، ولا يكون إلا مثل الوالد، ولا سمى سبحانه، فضلا عن مثيل". وأما سورة آل عمران فتهدف إلى "التوحيد". ويؤكد هذا، المستريحي حمد المستريحي، فيقول عن سورة مريم: [...] ومحور هذه السورة يدور حول التوحيد والإيمان بوجود الله ووحدانيته وبيان منهج المهتدين ومنهج الضالين [...]"، ويضيف عن سورة آل عمران: " وقد اشتملت هذه السورة الكريمة على ركنين هامين من أركان الدين هما: الأول، ركن العقيدة وإقامة الأدلة والبراهين على وحدانية الله جلّت قدرته./ الثاني، التشريع وبخاصة فيما يتعلق بالغزوات في سبيل الله".فالقرآن يخوض في هاتين السورتين نقاشا حادا مع النصارى حول التوحيد والتثليث، والتنزه عن الولد.










سنقوم في هذا الفصل برسم صورة لها من خلال الآيات الخاصة بها في القرآن. وكنت قد طالعت معظم تفاسير القرآن فلم أرَ أي اختلاف جوهري بينهم، لذا قررت أن أستعين بثلاثة تفاسير من فترات تاريخية مختلفة تمتد على تسعة قرون منها؛ "جامع البيان في علوم القرآن" للطبري (838؟- 923)1 و"التفسير الكبير" لفخر الدين الرازي (1210- 1149)2 و"روح المعاني" لمحمد شكري الألوسي (1802- 1854)3. واستعنت كذلك بكتب التراث التي تحتوي خلافات ما، مثل كتب؛ و"تاريخ اليعقوبي" لليعقوبي (؟- 897؟)4، و"أنساب العرب" و"كتاب الفصل في الأهواء والنحل" و"الاحكام في أصول القرآن" لابن حزم (994- 1064)5، و"قصص الأنبياء" لابن كثير (1301- 1372)6، و"كتاب العبر" لابن خلدون (1332- 1406)7، و"مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" لإبراهيم بن عمر البقاعي، وآخرين. بالإضافة إلى عديد من الدراسات المعاصرة، عندما يقتضي الأمر ذلك، ولم أغفل في أي مصدر من شأنه أن يسهم في إيضاح المبهم وتفسير الصعب. والجدير ذكره أن جميع التفاسير والدراسات المعاصرة تتفق اتفاقا لا خلاف فيه في قضايا العقيدة، أما الاختلافات فهي في الجزئيات والهوامش، وسأشير إليها في حينه. ويتوزع هذا الفصل على:










المبحث الأول: نسبها- وفيه نشرح ونحلل من هو عمران، أهو والدها، أم اسم عائلتها. وهل في القرآن عمرانان، كما يدعي البعض، أم عمران واحد؟ وسنتعرف أيضا على أمها. ثم نشرح أهمية نسبها إلى سلالة الأنبياء.










المبحث الثاني: أسرتها- ونقصد عائلتها النووية، المؤمنة الواثقة بالله والفقيرة. لتسليط الضوء قدر الإمكان على البيئة الاجتماعية التي تنتسب إليها.










المبحث الرابع: مولدها- وفيه نشرح نذر أمها التي يئست من الإنجاب بعد أن كانت عاقرا. والظروف التي ولدتها فيها. ومعنى اسمها.










المبحث الخامس: تعبدها- بعد مولدها، وإيفاء لنذرها أدخلتها أمها إلى المحراب كي تقوم على خدمته. وهناك اختلف الأحبار على كفالتها، لذا اقترعوا عليها ففاز زكريا. ونشرح عن تعبدها وأكلها من الرزق المعجزي.










المبحث السادس: بشارتها- نشرح مجيء الملاك جبريل من عند الله ببشارة حملها من غير فحل. ونأتي أيضا على الاضطراب الذي ألم بها نتيجة لهذه البشارة المعجزية. ونحاول أن نتعرف على المكان الشرقي الذي تمت فيه البشارة. ثم نتحدث عن بشارة زكريا، البشارة المرافقة لبشارة مريم.










المبحث السابع: حملها- وفيه نأتي بالشرح والتفسير لحالتها النفسية أثناء الحمل. ونحاول أن نتعرف على مدة حملها، هل كانت، كبقية النساء تسعة أشهر، أم غير ذلك؟










المبحث الثامن: ولادتها- حالتها أثناء وضعها للطفل عيسى، وردود فعل البيئة المحيطة بها. فقد لجأت إلى مكان بعيد عن المحراب وعن بيت أهلها.










المبحث التاسع: كراماتها- عندما وضعت عيسى المسيح، كان الله قد أطعمها من ثمار النخلة اليابسة في غير موعدها، وسقاها من جدول ماء جاف.










المبحث العاشر: مكانتها- مريم المرأة المصطفاة من الله، كي تحمل بصورة معجزية، وصفها بالصديقة، الوصف الذي لم يصف به امرأة غيرها. وسوف نناقش مكانتها مقارنة ببعض النساء الوارد ذكرهن في القرآن. كما نناقش موقف ابن حزم الذي يعتبرها نبيّة.










تلخيص- وفيه نجمل النتائج التي توصلنا إليها.










الفصل الثالث- الائتلاف والاختلاف


كنا في الفصلين السابقين قد تعرفنا على مريم في العهد الجديد والقرآن. ووقفنا بتفصيل وعمق على كل جانب من جوانب شخصيتها، وفقا للخطة التي حُدِدَت في المقدمة. أما في هذا الفصل، فسنقوم بمقارنة هذا النتائج ومطابقتها، بحيث نتعرف على أوجه الاتفاق والاختلاف بين العهد الجديد والقرآن إن كلاهما يتفقان في النقاط الجوهرية التي تؤكد قدرة الله غير المحدودة، حمل مريم الفتاة العذراء من روح الله. ومكانتها هي الأسمى بين جميع النساء اللواتي ذُكرن فيهما، سواء بالاسم الصريح أو بالإشارة والدليل . يقول يوسف درّة حداد، المعروف بالأستاذ الحداد، في هذا الصدد: "فهي إذن- قصة مريم/ أ. أ- دستور إيمان القرآن الأول بالمسيح". ومعروف أن المهاجرين المسلمين الأوائل بقيادة جعفر بن أبي طالب، كانوا يحفظون قصة مريم كما جاءت في القرآن لدى هجرتهم إلى الحبشة. وعندما قرأها جعفر على النجاشي قال، وكما ورد في كتاب "الشهيد جعفر الطيار وشهداء مؤتة عليهم السلام": "إن هذا والذي جاء به عيسى (عليه السلام) ليخرج من مشكاة واحدة، [...]". أما الاختلافات فإنها لا تمسّ جوهر مكانة مريم كما هو مُبَيّن وواضح لاحقا، وما الاختلافات إلا إضافة من القرآن إلى عدة جوانب من حياتها، تؤكد مكانتها، وتفصلها بصورة نسبية عن مكانة ابنها، عيسى المسيح. يتوزع هذا الفصل على ثلاثة أقسام:










أولا- الائتلاف، ويتوزع على خمسة مباحث:


المبحث الأول: نسبها- يتفق كل العهد الجديد والقرآن- مع اختلافات بسيطة- في التفاصيل- على أن نسبها داودي، من الناحيتين البيولوجية والإيمانية في نفس الوقت.










المبحث الثاني: بشارتها- يتفق كل العهد الجديد والقرآن على أن الملاك جبرائيل جاءها بالبشارة من عند الله، وأنها ستحبل وتلد من روحه، دون تدخل أي رجل. ويتفقان أيضا على أنها اضطربت لسماع البشارة المعجزية.










المبحث الثالث: حملها وولادتها- وأنها حملت من روح الله. ومرّت عليها فترة حمل صعبة للغاية من الناحية الاجتماعية، لأن الناس، وخاصة أهلها، لم يكونوا يستوعبون أو يدركون ما يجري لها ويحدث معها. لذا تركت ديار أهلها لتلد بعيدا عنهم، في مكان آمن.










المبحث الرابع: مكانتها- يقّر كل من العهد الجديد والقرآن أن مريم هي أهم امرأة فيهما. وقد انفردا بوصفها بصفة لم توصف بها أي امرأة غيرها. يصفها العهد الجديد ب”Kyckaretomeni”- أي المنعم عليها. والقرآن ب"الصدّيقة".


















ثانيا- الاختلاف، ويتوزع على ستة مباحث:


المبحث الأول: أسرتها وحياتها حتى البشارة- وفيه نبحث في نقطتين أساسيتين، ذكر نذر أمها لها قبل الولادة في، وعدم ذكره في العهد الجديد. وذكر خطيبها يوسف في العهد الجديد، وعدم ذكره في القرآن.










المبحث الثاني: مكانا البشارة والولادة – وفيه نبحث أسباب ذكر العهد الجديد لمكاني؛ البشارة في الناصرة، والولادة في بيت لحم؛ أما القرآن فيحددهما ب"وراء الحجاب، ومكانا شرقا" و"مكانا قصيا عن جذع النخلة".










المبحث الثالث: مريم ترافق يسوع إلى الهيكل- وفيه نبحث أسباب عدم ذكر القرآن لعدم مرافقة يسوع إلى الهيكل. معروف أن يسوع عندما بلغ من العمر اثنتي عشرة سنة، ذهبت به أمه إلى الهيكل كي تؤدي فريضة دينية، علما أنها ليست واجبة على النساء، وأخذته كي تقوم هناك بطقس التثبيت له. القرآن لم يذكر هذه الحادثة أو شبيها لها.










المبحث الرابع: كراماتها- وفيه نبحث أسباب عدم ذكر العهد الجديد لأية كرامة لها (الكرامات كانت لابنها)، وتأكيد القرآن عليها.










المبحث الخامس: هجرتها إلى مصر- وفيه نبحث أسباب ذكر العهد الجديد لهجرتها ووليدها وخطيبها يوسف بعد الولادة إلى مصر خوفا على الوليد من النظام السياسي، وعدم ذكرها في القرآن.










المبحث السادس: مريم ترافق يسوع في كرازته وحتى رفعه- وفيه نبحث عدم ذكر القرآن أيّة حادثة من أحداث مرافقة مريم لابنها عيسى المسيحَ في كرازته، والقول بعدم صلبه.










ثالثا، الاختلاف والتكامل ويتكون من مبحث واحد:


- في المحراب ونشيدها


الخاتمة: وفيها نجمل ما توصلنا إليه من نتائج.


















1– "أورشليم" هو اسم مدينة القدس كما كان في فترة بشارة مريم. ولا علاقة له بالاسم "الإسرائيلي"، ירושלים، لمدينة القدس الحالية. وليس للاسم "أورشليم" كما ورد في النص، أية صبغة سياسية في الوضع الراهن.










1– يمام،يعنيزغاليل،وهيأقلقيمة: تقدمةتفرضهاالشريعةاليهوديةعلىالمرأةالتيتلدحديثا. وفيالعادة،فإنأفقرالنساءهناللواتييقدمنزوجياليمامالزغاليل.










1 - ما زال هذا الطقس يُقام للصبية اليهود، الذكور والإناث.










*- قائمة المصادر والمراجع موجودة في النص الكامل للبحث.










1- شيخ مفسري المأثور الذي يعتمد "على الاستعمالات اللغوية بجانب الروايات المنقولة، ويستشهد بالشعر القديم، ويهتم بالمذاهب النحوية، ويحتكم إلى المعروف من لغة العرب، ويعالج الأحكام الفقهية مجتهدا، فيذكر أقوال العلماء ومذاهبهم، ويخلص من ذلك برأي يختاره لنفسه ويرجحه".










2- الذي "يهتم ببيان المناسبات بين آيات القرآن وسوره، ويكثر من الاستطراد إلى العلوم الرياضية والطبيعية والفلكية والفلسفية ومباحث الإلهيات على نمط استدلالات الفلاسفة العقلية، ويذكر مذاهب الفقهاء، [...]".










3 - الذي "هو تفسير جامع لخلاصة ما سبقه من التفاسير مثل تفسير ابن عطية وتفسير أبي حيّان، والكشاف للزمخشري وتفسير أبي السعود وتفسير البيضاوي وتفسير الفخر الرازي، وصاغ من ذلك كله تفسيره بعد أن أطال النظر فيما قرأ، ووازن وقارن ورجح ما اختاره، معتمدا على زاد كبير من الثقافة الواسعة في علوم الشرع واللغة".










4 - مؤرخ، أخذ بالرواية المسيحية بما يخص مريم والمسيح عندما لم يتوفر نصّ قرآني قطعي.










5 - وُلد لأسرة غنية للغاية ومقربة من النظام في قرطبة في سنة994 ميلادية. يعتبر شاعرا وفقيها وفيلسوفا. أول من قال بنبوّة النساء، حيث اعتبرمريم وغيرها نبيات. لا تزال مؤلفاته معتبرة للغاية بين المثقفين في العالم. توفي في العام 1064م.










6 - هو الأمام الحافظ أبو الفداء إسماعيل بن كثير الدمشقي. بصريّ الأصل، ودمشقي المولد في سنة 1301 ميلادية. درس على أيدي بن تيمية وإبن الفركاح. كان مدرسا في الجامع الأموي. له مساهمات في الفقه والتفسير والتاريخ. وتوفي في العام 1372م.










7 - ولد في تونس في سنة 1332 ميلادية. مؤرخ مرموق. صاحب مذهب السوسيولوجيا الصراعية في دراسة التاريخ عند العرب. وتعتبر مقدمته من أهم المؤلفات في هذا المجال. توفي في العام 1406م.


خلافة معاوية بن أبى سفيان - رضي الله عنه

خلافة معاوية بن أبى سفيان - رضي الله عنه

(41 - 60 هـ/ 661- 679م )













عندما أصبح معاوية خليفة للمسلمين ، كانت الدولة الإسلامية تقوم على شبه الجزيرة العربية، والشام، والعراق، ومصر، وبلاد الجزيرة، وخراسان.


أما الجهات التى وصلت إليها الجيوش الإسلامية فيما وراء تلك البلاد فإنها كانت تفتقر إلى الاستقرار.






وكان للفتنة التى حدثت فى عهد عثمان، وما أعقبها من صراع بين على ومعاوية أثرهما فى توقف حركة الفتوحات الكبرى، ومتابعة الجهاد فى سبيل حماية الإسلام، وأداء رسالته، واستكمال بناء الدولة الإسلامية.


فلابد أن تعود المياه إلى مجاريها، ولابد أن تعود الفتوحات الإسلامية كما كانت، بل وأكثر مما كانت.






لقد أصبحت "دمشق" عاصمة الخلافة، ومنها تنطلق الجيوش باسم الله.


وعمل معاوية منذ توليه الخلافة على تجهيز الجيوش بشن حرب شاملة ضد "الإمبراطورية البيزنطية"، وهى "إمبراطورية الروم".






لقد كانت مركز القوة الرئيسية المعادية للدولة الإسلامية، وطالما حاولت فى لحظات الخلاف والفتنة أن تسترد الشام ومصر، أغلى أقاليم "الإمبراطورية الرومانية" قبل فتح العرب لهما.






إن أراضى آسيا الصغرى التابعة لتلك الإمبراطورية تتاخم الجهات الشمالية من بلاد الشام والعراق، وتنطلق منها الجيوش الرومية لتخريب هذين الإقليمين العربيين ! فلماذا لا يحاول معاوية القضاء على ذلك العدو اللدود؟ لماذا لا يستولى على القسطنطينية نفسها عاصمة تلك الإمبراطورية ؟






أعد معاوية الحملة الأولى، وزودها بالعَدد والعُدد، وجعل على رأسها ابنه وولى عهده يزيد، ولم يتخلف صحابة رسول الله ( عن الجهاد فى سبيل الله، فانضموا إلى هذه الحملة متمثلين أمام أعينهم،






قول الرسول ( "لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش" [أحمد والحاكم]، آملين أن يتحقق فيهم قول الرسول (. فقد ثبت عن رسول الله (: "أول جيش يغزون مدينة قيصر مغفور لهم" [البخارى].






ولقد اشترك فى هذه الحملة أبو أيوب الأنصارى الذى نزل النبى ( فى بيته عند الهجرة. ولم يستطع المسلمون فتح المدينة هذه المرة، ولكن حسبهم أنهم أول جيش يغزو القسطنطينية.






ولقد سعد معاوية باشتراك الصحابة فى هذه الغزوة، فهم خير وبركة، فبهم تعلو راية المجاهدين. واتجهت هذه الجيوش إلى القسطنطينية حتى فتحوا بلادًا عديدة فى آسيا الصغرى وضَربوا الحصار على العاصمة الحصينة. وعزز معاوية هذه الغزوة بأسطول سار تحت قيادة فضالة بن عبيد الأنصارى، وسار هذا الأسطول إلى مياه العاصمة البيزنطية.


وأثناء الحصار، مرض "أبو أيوب الأنصارى" ولم يلبث أن توفى، ودفن جثمانه قرب أسوار القسطنطينية، وأظهر الجنود المسلمون ضروبًا من الشجاعة أذهلت الروم، ثم انسحبت الجيوش الإسلامية بعد ذلك تأهبًا لكرّة أخرى من الجهاد. .






حرب السنوات السبع:






بعث معاوية حملة ثانية ضد القسطنطينية؛ إنه يدرك خطر البيزنطيين، ويعمل جاهدًا على تدمير قوتهم.






لقد دام الحصار للقسطنطينية سبع سنوات (54 - 60 هـ / 674 - 680م)، وكان التعاون قائمًا بين القوات البحرية والأسطول الإسلامى، فقد اتخذ الأسطول مقرّا له فى جزيرة "أرواد" قرب مياه القسطنطينية، وبمطلع الربيع، تم إحكام الحصار، فانتقلت القوات البرية لإلقاء الحصار على أسوار العاصمة، على حين تولت سفن الأسطول حصار الأسوار البحرية.


وباقتراب فصل الشتاء نقل الأسطول قوات المسلمين إلى جزيرة "أرواد" حماية لها من برد تلك الجهات القارص، ثم عاد فنقلها لمتابعة الحصار بمطلع الربيع.






ولم تستطع هذه " الحملة الثانية" اقتحام القسطنطينية بسبب مناعة أسوارها، وما كان يطلقه البيزنطيون على سفن الأسطول الإسلامى من نيران، فانتهى الأمر بعقد صلح بين المسلمين والبيزنطيين مدته ثلاثون عامًا، عام 56هـ / 676م.






وبرغم عجز هاتين الحملتين عن الاستيلاء على القسطنطينية فإنهما حققتا أهدافًا واسعة، فلقد تخلى أباطرة الروم عن مشاريعهم وأحلامهم القديمة فى استعادة مصر والشام، وغيرهما من الأراضى التى كانت تابعة لهم من قبل، وعلموا أن جيوش الإسلام باتت قوية، وراحت تدق أبواب عاصمتهم بعنف.






لقد زلزلت القوات الإسلامية إمبراطوريتهم نفسها، وشلت نشاط القوات البيزنطية، وقلمت أظفارها، مما أتاح للأمويين بسط رقعة الدولة شرقًا وغربًا.






الجهاد فى الميدان الشرقى:










فإذا انتقلنا من الشام إلى الميدان الشرقى نجد أن الفتوحات التى توقفت أواخر خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضى الله عنه- قد استأنفها الأمويون، فعندما تولى معاوية الحكم بعث الجيوش لنشر الإسلام فى مواطن جديدة سكنها الأتراك فى بلاد ما وراء النهر، وإلى بلاد الهند التى كانت موطن حضارة من أقدم الحضارات فى جنوب شرق آسيا.


وفى بلاد الشرق، حيث كان زياد بن أبيه واليًا على تلك البلاد من قِبَل معاوية بن أبى سفيان، غزا المسلمون أفغانستان فسقطت "كابول" فى أيديهم سنة 664م، وعبروا نهر جيحون، واستولوا على بخارى سنة 674م، ثم على سمرقند سنة 676م، ثم واصلوا زحفهم حتى نهر سيحون، وذلك على يد قادة من شباب الإسلام مثل محمد بن القاسم الثقفى وقتيبة بن مسلم الباهلى وغيرهما.






الجهاد فى الميدان الغربى:






وانطلقت الفتوحات الأموية منذ ولى معاوية بن أبى سفيان نحو الميدان الغربى فى البلاد التى تلاصق مصر من جهة الغرب، وتمتد من "برقة" إلى المحيط الأطلسى، وكانت معروفة عند العرب باسم بلاد المغرب، وكان يسكنها أناس عرفوا باسم البربر، وهم ينتمون فى أصلهم إلى العنصر الليبى القديم الذى يرتبط مع الأصول التى ينتمى إليها المصريون القدماء.






وكان هؤلاء البربر ينقسمون بحسب مسكنهم إلى قسمين: حضر يزرعون الأرض ويعيشون مستقرين قرب الساحل، وعلى سفوح الجبال الخصبة، واشتهروا باسم "البرانس". وبدو يرعون قطعانهم من الماشية فى الصحاري، وعرفوا باسم "البتر".






عقبة فى بلاد المغرب:






وأسند الخليفة معاوية بن أبى سفيان فتح تلك البلاد وإفريقية سنة 50هـ إلى "عقبة بن نافع الفهرى"، الذى كان مقيمًا ببرقة منذ أن فتحها عمرو بن العاص أثناء ولايته الأولى على مصر، فكان عقبة من أكثر الناس خبرة ودراية بأحوال هذه البلاد، وعهد إليه معاوية بقيادة بعض السرايا الحربية التى توغلت فى شمال إفريقية، ورأى عقبة أن أفضل الطرق لفتح بلاد المغرب يقتضى إنشاء قاعدة للجيوش العربية فى المنطقة التى عرفها العرب باسم إفريقية، وهى جمهورية تونس الحالية.






واستطاع عقبة تنفيذ مشروعه حين انطلق بجيوشه إلى إفريقية واستولى عليها، لقد اختار موقعًا يلتقى عنده "البرانس" و "البتر" وأقام عليه قاعدته التى سماها "القيروان"، وشرح عقبة أهدافه من تأسيس القيروان قائلا لجنوده: وأرى لكم يا معشر المسلمين أن تتخذوا بها (أى بأفريقية) مدينة نجعل فيها عسكرًا، وتكون عز الإسلام إلى أبد الدهر.


وكان عقبة بن نافع صادق الإيمان، فيروى أنه لما بدأ فى بناء القيروان، وكان مكانها مكان ملتف بالشجر تأوى إليها السباع والوحوش والحيات العظام، فدعا الله تعالى فلم يبق فيها شىء من ذلك، حتى إن السباع صارت تخرج منها تحمل أولادها، والحيات يخرجن هاربة من أحجارهن، ولما رأى البربر ذلك أسلم منهم عدد كبير.






الأحوال الداخلية للدولة:


1- دمشق العاصمة الجديدة:






كان على -رضى الله عنه- قد اتخذ من "الكوفة" مركزًا للخلافة، فاتخذ معاوية بن أبى سفيان مدينة "دمشق" لتكون مقرّّا لخلافته ولآل بيته من بعده.


وكانت هذه الخطوة تعنى أن مقر الخلافة أصبح محصنًا بقوة مادية وبشرية كبيرة، وشجعه على ذلك أن أهل الشام برهنوا له عن ولائهم للبيت الأموى، ووقفوا إلى جانب معاوية خلال تلك الفترة التى قامت فيها الفتنة.


وكان معاوية قد راح يدعم علاقته بالقبائل الكبيرة منذ ولايته على الشام، فصاهر أقواها وأعزها، وأكثرها نفرًا، وهى قبائل كلب اليمانية، فكانت زوجته ميسون من بنى بحدل من قبيلة كلب، وأنجب منها ابنه يزيد الذى صار ولى عهد الدولة الأموية.


أما عن موقع مدينة دمشق عاصمة الخلافة الجديدة، فقد كان موقعًا فريدًا، فهى تقع على حافة بادية البلقاء، فى واحة الغوطة الخصيبة، ويغذيها نهر بردى، وتحيط بها جبال شاهقة من جميع نواحيها وهى إلى جانب هذا كله متجرًا للقوافل التجارية المعروفة باسم "رحلات الصيف".


وها هى ذى قد أصبحت بعد الفتح الإسلامى معسكرًا للجيوش الإسلامية، وقاعدة تباشر منها مهامها الحربية، وتستطيع مراقبة العدو الأول للدولة الإسلامية، وهو إمبراطورية الروم.






2- الوراثة فى الحكم:






وكانت السمة الثانية التى ميزت الدولة الأموية: تطبيق مبدأ الوراثة فى الحكم، لقد تخلى معاوية عن القواعد التى جرى عليها انتخاب الخلفاء الراشدين من قبله، معتقدًا أن المجتمع الإسلامى بعد هذه السنين قد تطور، وأن قوى جديدة فيه قد ظهرت تريد أن تبحث لها عن دور، وأن القبائل الكبرى التى قامت بالدور البارز فى حركة الفتوح وقيادة الجيوش لم تعد تقبل بسهولة أن تنقاد لمن لا ترى مصالحها عنده، وتضمن نفوذها لديه، وأن الأمصار والولايات الجديدة قد أصبحت حريصة على جعل جهاز الحكم فيها، أو قريبًا منها، مما يهدد الدولة الإسلامية بالتنازع والحروب الداخلية فرأى أن يستخلف ولده يزيد إذ تؤيده قوة أهل الشام وتحميه قوة قبيلة كلب التى منها أمه وأخواله. .






وبالرغم من العقبات التى اعترضت معاوية فإنه استطاع الحصول على البيعة لابنه يزيد سنة 56هـ / 676م، وبهذا تم تحويل الخلافة إلى سلطة مبدأ التوريث.






وصار معاوية بذلك مؤسس الدولة الأموية، وأول من طبق الوراثة فى الخلافة الإسلامية.






منجزات معاوية:






أما عن عهد معاوية فقد كان حافلا بالإنجازات، فقد أعاد حبات العقد التى انفرطت فنظمها من جديد، وبعث الجيوش شرقًا وغربًا، وقضى على الفتنة، وأتاح للراية الإسلامية أن تواصل تقدمها فى كل اتجاه، ولقن أعداء الأمة دروسًا لا تنسى!






ولقد تحقق له ما أراد، فأقام دولة لبنى أمية وَوَرَّثَ ابنه يزيد الخلافة من بعده، ثم أجاب داعى الله بعد حياة حافلة، وقد قال فيه رسول الله (: "اللهم اجعله هاديًا مهديّا واهدِِ به" [أحمد والترمذى].


وقد لقى معاوية ربه، فى رجب سنة 60هـ / 680م.


الامام البخاري - حياة الإمام البخاري يرحمه الله

حياة الإمام البخاري يرحمه الله





بسم الله الرحمن الرحيم

أمير أهل الحديث



الإمام الجليل والمحدث العظيم محمد بن إسماعيل البخاري أمير أهل الحديث وصاحب أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى، يقول البخاري: صنفت الصحيح في ست عشرة سنة وجعلته حجة فيما بيني وبين الله تعالى. ولم يشهد تاريخ الإسلام مثله في قوة الحفظ ودقة الرواية والصبر على البحث مع قلة الإمكانات، حتى أصبح منارة في الحديث وفاق تلامذته وشيوخه على السواء.


ويقول عنه أحد العلماء: لا أعلم أني رأيت مثله كأنه لم يخلق إلا للحديث.


فمع سيرة البخاري ومواقف من حياته.


--------------------------------------------------------------------------------


نسبه ومولده


هو أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه البخاري وكلمة بردزبه تعني بلغة بخارى "الزراع" أسلم جده "المغيرة" على يدي اليمان الجعفي والي بخارى وكان مجوسيا وطلب والده إسماعيل بن إبراهيم العلم والتقى بعدد من كبار العلماء، وروى إسحاق بن أحمد بن خلف أنه سمع البخاري يقول سمع أبي من مالك بن أنس ورأى حماد بن زيد وصافح ابن المبارك بكلتا يديه.


ولد أبو عبد الله في يوم الجمعة الرابع من شوال سنة أربع وتسعين.


ويروى أن محمد بن إسماعيل عمي في صغره فرأت والدته في المنام إبراهيم الخليل عليه السلام فقال لها يا هذه قد رد الله على ابنك بصره لكثرة بكائك أو كثرة دعائك شك البلخي فأصبحت وقد رد الله عليه بصره.


---------------------------------


قوة حفظه وذاكرته


ووهب الله للبخاري منذ طفولته قوة في الذكاء والحفظ من خلال ذاكرة قوية تحدى بها أقوى الاختبارات التي تعرض لها في عدة مواقف. يقول محمد بن أبي حاتم: قلت لأبي عبد الله: كيف كان بدء أمرك قال ألهمت حفظ الحديث وأنا في الكتاب فقلت كم كان سنك فقال عشر سنين أو أقل ثم خرجت من الكتاب بعد العشر فجعلت أختلف إلى الداخلي وغيره فقال يوما فيما كان يقرأ للناس سفيان عن أبي الزبير عن إبراهيم، فقلت له: إن أبا الزبير لم يرو عن إبراهيم فانتهرني فقلت له ارجع إلى الأصل، فدخل فنظر فيه ثم خرج فقال لي: كيف هو يا غلام؟ قلت:هو الزبير بن عدي عن إبراهيم.


فأخذ القلم مني وأحكم( أصلح) كتابه وقال: صدقت.


فقيل للبخاري ابن كم كنت حين رددت عليه قال ابن إحدى عشرة سنة.


ولما بلغ البخاري ست عشرة سنة كان قد حفظ كتب ابن المبارك ووكيع.


وقال محمد بن أبي حاتم الوراق سمعت حاشد بن إسماعيل وآخر يقولان كان أبو عبد الله البخاري يختلف معنا إلى مشايخ البصرة وهو غلام فلا يكتب حتى أتى على ذلك أيام فكنا نقول له إنك تختلف معنا ولا تكتب فما تصنع فقال لنا يوما بعد ستة عشر يوما إنكما قد أكثرتما على وألححتما فاعرضا على ما كتبتما فأخرجنا إليه ما كان عندنا فزاد على خمسة عشر ألف حديث فقرأها كلها عن ظهر قلب حتى جعلنا نحكم كتبنا من حفظه ثم قال أترون أني أختلف هدرا وأضيع أيامي فعرفنا أنه لا يتقدمه أحد.


وقال ابن عدي حدثني محمد بن أحمد القومسي سمعت محمد ابن خميرويه سمعت محمد بن إسماعيل يقول أحفظ مائة ألف حديث صحيح وأحفظ مائتي ألف حديث غير صحيح


قال وسمعت أبا بكر الكلواذاني يقول ما رأيت مثل محمد بن إسماعيل كان يأخذ الكتاب من العلماء فيطلع عليه اطلاعة فيحفظ عامة أطراف الأحاديث بمرة.


-----------------------------


طلبه للحديث :


رحل البخاري بين عدة بلدان طلبا للحديث الشريف ولينهل من كبار علماء وشيوخ عصره في بخارى وغيرها. وروي عن البخاري أنه كان يقول قبل موته: كتبت عن ألف وثمانين رجلا ليس فيهم إلا صاحب حديث كانوا يقولون الإيمان قول وعمل يزيد وينقص.


ونعود إلى البخاري في رحلته في طلب العلم ونبدأها من مسقط رأسه بخارى فقد سمع بها من الجعفي المسندي ومحمد بن سلام البيكندي وجماعة ليسوا من كبار شيوخه ثم رحل إلى بلخ وسمع هناك من مكبن بن إبراهيم وهو من كبار شيوخه وسمع بمرو من عبدان بن عثمان وعلي بن الحسن بن شقيق وصدقة بن الفضل. وسمع بنيسابور من يحيى بن يحيى وجماعة من العلماء وبالري من إبراهيم بن موسى.


وفي أواخر سنة 210هـ قدم البخاري العراق وتنقل بين مدنها ليسمع من شيوخها وعلمائها. وقال البخاري دخلت بغداد آخر ثمان مرات في كل ذلك أجالس أحمد بن حنبل فقال لي في آخر ما ودعته يا أبا عبد الله تدع العلم والناس وتصير إلى خراسان قال فأنا الآن أذكر قوله.


ثم رحل إلى مكة وسمع هناك من أبي عبد الرحمن المقرئ وخلاد بن يحي وحسان بن حسان البصري وأبي الوليد أحمد بن محمد الأزرقي والحميدي.


وسمع بالمدينة من عبد العزيز الأويسي وأيوب بن سليمان بن بلال وإسماعيل بن أبي أويس.


وأكمل رحلته في العالم الإسلامي آنذاك فذهب إلى مصر ثم ذهب إلى الشام وسمع من أبي اليمان وآدم بن أبي إياس وعلي بن عياش وبشر بن شعيب وقد سمع من أبي المغيرة عبد القدوس وأحمد بن خالد الوهبي ومحمد بن يوسف الفريابي وأبي مسهر وآخرين.


--------------------------------------------------------------------------------


مؤلفات البخاري : 


عد العلماء كتاب الجامع الصحيح المعروف بـ"صحيح البخاري" أصح كتاب بعد كتاب الله، ويقول عنه علماء الحديث "هو أعلى الكتب الستة سندا إلى النبي في شيء كثير من الأحاديث وذلك لأن أبا عبد الله أسن الجماعة وأقدمهم لقيا للكبار أخذ عن جماعة يروي الأئمة الخمسة عنهم" ويقول في قصة تأليفه "الجامع الصحيح ":" كنت عند إسحاق بن راهويه فقال بعض أصحابنا لو جمعتم كتابا مختصرا لسنن النبي فوقع ذلك في قلبي فأخذت في جمع هذا الكتاب"


ويقول في بعض الروايات :


ـ أخرجت هذا الكتاب من زهاء ست مائة ألف حديث.


ـ ما وضعت في كتابي الصحيح حديثا إلا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين.


ـ ما أدخلت في هذا الكتاب إلا ما صح وتركت من الصحاح كي لا يطول الكتاب.


ويروي البخاري أنه بدأ التأليف وعمره 18 سنة فيقول:


"في ثمان عشرة جعلت أصنف قضايا الصحابة والتابعين وأقاويلهم وذلك أيام عبيد الله بن موسى، وصنفت كتاب التاريخ إذ ذاك عند قبر رسول الله في الليالي المقمرة وقل اسم في التاريخ إلا وله قصة إلا أني كرهت تطويل الكتاب، وكنت أختلف إلى الفقهاء بمرو وأنا صبي فإذا جئت أستحي أن أسلم عليهم فقال لي مؤدب من أهلها كم كتبت اليوم فقلت: اثنين وأردت بذلك حديثين فضحك من حضر المجلس فقال شيخ منهم لا تضحكوا فلعله يضحك منكم يوما"


وقال أبو جعفر محمد بن أبي حاتم قلت لأبي عبد الله تحفظ جميع ما أدخلت في المصنف فقال لا يخفى علي جميع ما فيه، وسمعته يقول صنفت جميع كتبي ثلاث مرات.


--------------------------------------------------------------------------------


دقته واجتهاده :


ظل البخاري ستة عشر عاما يجمع الأحاديث الصحاح في دقة متناهية، وعمل دؤوب، وصبر على البحث وتحري الصواب قلما توافرت لباحث قبله أو بعده حتى اليوم، وكان بعد كل هذا لا يدون الحديث إلا بعد أن يغتسل ويصلي ركعتين.


يروي أحد تلامذته أنه بات عنده ذات ليلة فأحصى عليه أنه قام وأسرج يستذكر أشياء يعلقها في ليلة ثمان عشرة مرة.


وقال محمد بن أبي حاتم الوراق كان أبو عبد الله إذا كنت معه في سفر يجمعنا بيت واحد إلا في القيظ أحيانا فكنت أراه يقوم في ليلة واحدة خمس عشرة مرة إلى عشرين مرة في كل ذلك يأخذ القداحة فيوري نارا ويسرج ثم يخرج أحاديث فيعلم عليها.


وروي عن البخاري أنه قال: لم تكن كتابتي للحديث كما كتب هؤلاء كنت إذا كتبت عن رجل سألته عن اسمه وكنيته ونسبته وحمله الحديث إن كان الرجل فهما، فإن لم يكن سألته أن يخرج إلي أصله ونسخته فأما الآخرون لا يبالون ما يكتبون وكيف يكتبون.


وكان العباس الدوري يقول: ما رأيت أحدا يحسن طلب الحديث مثل محمد بن إسماعيل كان لا يدع أصلا ولا فرعا إلا قلعه ثم قال لنا لا تدعوا من كلامه شيئا إلا كتبتموه.


--------------------------------------------------------------------------------


تفوقه على أقرانه في الحديث :


ظهر نبوغ البخاري مبكرا فتفوق على أقرانه، وصاروا يتتلمذون على يديه، ويحتفون به في البلدان. فقد روي أن أهل المعرفة من البصريين يعدون خلفه في طلب الحديث وهو شاب حتى يغلبوه على نفسه ويجلسوه في بعض الطريق فيجتمع عليه ألوف أكثرهم ممن يكتب عنه وكان شابا لم يخرج وجهه.


وروي عن يوسف بن موسى المروروذي يقول كنت بالبصرة في جامعها إذ سمعت مناديا ينادي يا أهل العلم قد قدم محمد بن إسماعيل البخاري فقاموا في طلبه وكنت معهم فرأينا رجلا شابا يصلي خلف الأسطوانة فلما فرغ من الصلاة أحدقوا به وسألوه أن يعقد لهم مجلس الإملاء فأجابهم فلما كان الغد اجتمع قريب من كذا كذ ألف فجلس للإملاء وقال يا أهل البصرة أنا شاب وقد سألتموني أن أحدثكم وسأحدثكم بأحاديث عن أهل بلدكم تستفيدون منها.


وقال أبو أحمد عبد الله بن عدي الحافظ سمعت عدة مشايخ يحكون أن محمد بن إسماعيل البخاري قدم بغداد فسمع به أصحاب الحديث فاجتمعوا وعمدوا إلى مائة حديث فقلبوا متونها وأسانيدها وجعلوا متن هذا لإسناد هذا و إسناد هذا لمتن هذا ودفعوا إلى كل واحد عشرة أحاديث ليلقوها على البخاري في المجلس فاجتمع الناس وانتدب أحدهم فسأل البخاري عن حديث من عشرته فقال لا أعرفه وسأله عن آخر فقال لا أعرفه وكذلك حتى فرغ من عشرته فكان الفقهاء يلتفت بعضهم إلى بعض ويقولون الرجل فهم. ومن كان لا يدري قضى على البخاري بالعجز ثم انتدب آخر ففعل كما فعل الأول والبخاري يقول لا أعرفه ثم الثالث وإلى تمام العشرة أنفس وهو لا يزيدهم على لا أعرفه. فلما علم أنهم قد فرغوا التفت إلى الأول منهم فقال أما حديثك الأول فكذا والثاني كذا والثالث كذا إلى العشرة فرد كل متن إلى إسناده وفعل بالآخرين مثل ذلك فأقر له الناس بالحفظ فكان ابن صاعد إذا ذكره يقول الكبش النطاح.


وروي عن أبي الأزهر قال كان بسمرقند أربعمائة ممن يطلبون الحديث فاجتمعوا سبعة أيام وأحبوا مغالطة البخاري فأدخلوا إسناد الشام في إسناد العراق وإسناد اليمن في إسناد الحرمين فما تعلقوا منه بسقطة لا في الإسناد ولا في المتن.


وقال أحيد بن أبي جعفر والي بخارى قال محمد بن إسماعيل يوما رب حديث سمعته بالبصرة كتبته بالشام ورب حديث سمعته بالشام كتبته بمصر فقلت له: يا أبا عبد الله بكماله قال: فسكت.


--------------------------------------------------------------------------------


من كلمات البخاري :


[لا أعلم شيئا يحتاج إليه إلا وهو في الكتاب والسنة]


[ما جلست للحديث حتى عرفت الصحيح من السقيم وحتى نظرت في عامة كتب الرأي وحتى دخلت البصرة خمس مرات أو نحوها فما تركت بها حديثا صحيحا إلا كتبته إلا ما لم يظهر لي]


[ما أردت أن أتكلم بكلام فيه ذكر الدنيا إلا بدأت بحمد الله والثناء عليه]


--------------------------------------------------------------------------------


مواقف من حياة البخاري :


وقال بكر بن منير سمعت أبا عبد الله البخاري يقول أرجو أن ألقى الله ولا يحاسبني أني اغتبت أحدا قلت صدق رحمه الله ومن نظر في كلامه في الجرح والتعديل علم ورعه في الكلام في الناس وإنصافه فيمن يضعفه فإنه أكثر ما يقول: منكر الحديث، سكتوا عنه، فيه نظر ونحو هذا. وقل أن يقول فلان كذاب أو كان يضع الحديث حتى إنه قال إذا قلت فلان في حديثه نظر فهو متهم واه وهذا معنى قوله لا يحاسبني الله أني اغتبت أحدا وهذا هو والله غاية الورع. يقول محمد بن أبي حاتم: كان أبو عبد الله يصلي في وقت السحر ثلاث عشرة ركعة وكان لا يوقظني في كل ما يقوم فقلت أراك تحمل على نفسك ولم توقظني قال أنت شاب ولا أحب أن أفسد عليك نومك.


*يروي البخاري فيقول كنت بنيسابور أجلس في الجامع فذهب عمرو بن زرارة وإسحاق بن راهويه إلى يعقوب بن عبد الله والي نيسابور فأخبروه بمكاني فاعتذر إليهم وقال مذهبنا إذا رفع إلينا غريب لم نعرفه حبسناه حتى يظهر لنا أمره فقال له بعضهم: بلغني أنه قال لك لا تحسن تصلي فكيف تجلس فقال لو قيل لي شيء من هذا ما كنت أقوم من ذلك المجلس حتى أروي عشرة آلاف حديث في الصلاة خاصة.


وذات يوم ناظر أبو بكر البخاري في أحاديث سفيان فعرفها كلها ثم أقبل محمد عليه فأغرب عليه مائتي حديث فكان أبو بكر بعد ذلك يقول ذاك الفتى البازل والبازل الجمل المسن إلا أنه يريد هاهنا البصير بالعلم الشجاع.


قال محمد بن أبي حاتم سمعت البخاري يقول دخلت بلخ فسألني أصحاب الحديث أن أملي عليهم لكل من كتبت عنه حديثا فأمليت ألف حديث لألف رجل ممن كتبت عنهم.


قال أبو جعفر سمعت أبا عمر سليم بن مجاهد يقول كنت عند محمد بن سلام البيكتدي فقال لو جئت قبل لرأيت صبيا يحفظ سبعين ألف حديث قال فخرجت في طلبه حتى لحقته قال أنت الذي يقول إني أحفظ سبعين ألف حديث قال نعم وأكثر ولا أجيئك بحديث من الصحابة والتابعين إلا عرفتك مولد أكثرهم ووفاتهم ومساكنهم ولست أروي حديثا من حديث الصحابة أو التابعين إلا ولي من ذلك أصل أحفظه حفظا عن كتاب الله وسنة رسول الله .


قال محمد بن يعقوب بن الأخرم: سمعت أصحابنا يقولون لما قدم البخاري نيسابور استقبله أربعة آلاف رجل ركبانا على الخيل سوى من ركب بغلا أو حمارا وسوى الرجالة.


--------------------------------------------------------------------------------


ورعه : 


قال محمد بن أبي حاتم ركبنا يوما إلى الرمي، فجعلنا نرمي وأصاب سهم أبي عبد الله البخاري وتد القنطرة الذي على نهر ورادة فانشق الوتد فلما رآه أبو عبد الله نزل عن دابته فأخرج السهم من الوتد وترك الرمي وقال لنا ارجعوا ورجعنا معه إلى المنزل. فقال لي يا أبا جعفر لي إليك حاجة مهمة قالها وهو يتنفس الصعداء، وقال لمن معنا اذهبوا مع أبي جعفر حتى تعينوه على ما سألته فقلت أية حاجة هي. قال لي: تضمن قضاءها؟ قلت نعم على الرأس والعين. قال: ينبغي أن تصير إلى صاحب القنطرة فتقول له إنا قد أخللنا بالوتد فنحب أن تأذن لنا في إقامة بدله أو تأخذ ثمنه وتجعلنا في حل مما كان منا. وكان صاحب القنطرة حميد بن الأخضر الفربري. فقال لي أبلغ أبا عبد الله السلام وقل له أنت في حل مما كان منك وجميع ملكي لك الفداء وإن قلت نفسي أكون قد كذبت، غير أني لم أكن أحب أن تحتشمني في وتد أو في ملكي فأبلغته رسالته فتهلل وجهه واستنار وأظهر سرورا وقرأ في ذلك اليوم على الغرباء نحوا من خمسمائة حديث وتصدق بثلاث مائة درهم. · وقال بن أبي حاتم ورأيته استلقى على قفاه يوما ونحن بفربر في تصنيفه كتاب التفسير وأتعب نفسه ذلك اليوم في كثرة إخراج الحديث فقلت له إني أراك تقول إني ما أثبت شيئا بغير علم قط منذ عقلت فما الفائدة في الاستلقاء قال أتعبنا أنفسنا اليوم وهذا ثغر من الثغور خشيت أن يحدث حدث من أمر العد فأحببت أن استريح وآخذ أهبة فإن فاجئنا العدو كان بنا حراك.


· وضيفه بعض أصحابه في بستان له وضيفنا معه فلما جلسنا أعجب صاحب البستان بستانه وذلك أنه كان عمل مجالس فيه وأجرى الماء في أنهاره فقال له يا أبا عبد الله كيف ترى فقال هذه الحياة الدنيا.


· وقال أحمد بن حفص: دخلت على أبي الحسن يعني إسماعيل والد أبي عبد الله عند موته فقال لا أعلم من مالي درهما من حرام ولا درهما من شبهة قال أحمد فتصاغرت إلي نفسي عند ذلك ثم قال أبو عبد الله أصدق ما يكون الرجل عند الموت.


وكان الحسين بن محمد السمرقندي يقول كان محمد بن إسماعيل مخصوصا بثلاث خصال مع ما كان فيه من الخصال المحمودة كان قليل الكلام وكان لا يطمع فيما عند الناس وكان لا يشتغل بأمور الناس كل شغله كان في العلم.


--------------------------------------------------------------------------------


عمله بالتجارة :


وعمل البخاري بالتجارة فكان مثالا للتاجر الصدوق الذي لا يغش ولا ينقض نيته مهما كانت المغريات. روي أنه حملت إلى البخاري بضاعة أنفذها إليه ابنه أحمد فاجتمع بعض التجار إليه فطلبوها بربح خمسة آلاف درهم فقال انصرفوا الليلة فجاءه من الغد تجار آخرون فطلبوا منه البضاعة بربح عشرة آلاف فقال إني نويت بيعها للذين أتوا البارحة.


--------------------------------------------------------------------------------


ثناء الأئمة عليه :


قال أبو إسحاق السرماري: من أراد أن ينظر إلى فقيه بحقه وصدقه فلينظر إلى محمد بن إسماعيل. قال أبو جعفر سمعت يحيى بن جعفر يقول لو قدرت أن أزيد في عمر محمد بن إسماعيل من عمري لفعلت فإن موتي يكون موت رجل واحد وموته ذهاب العلم.


وكان نعيم بن حماد يقول: محمد بن إسماعيل فقيه هذه الأمة.


قال مصعب الزهري محمد بن إسماعيل أفقه عندنا وأبصر بالحديث.


وروي عن إسحاق بن راهويه أنه كان يقول اكتبوا عن هذا الشاب يعني البخاري فلو كان في زمن الحسن لاحتاج إليه الناس لمعرفته بالحديث وفقهه.


وكان علي بن حجر يقول أخرجت خراسان ثلاثة أبو زرعة ومحمد بن إسماعيل وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي ومحمد عندي أبصرهم وأعلمهم وأفقههم.


وقال محمد بن أبي حاتم سمعت إبراهيم بن خالد المروزي يقول رأيت أبا عمار الحسين بن حريث يثني على أبي عبد الله البخاري ويقول لا أعلم أني رأيت مثله كأنه لم يخلق إلا للحديث.


وقال محمد حدثني حاتم بن مالك الوراق قال سمعت علماء مكة يقولون محمد بن إسماعيل إمامنا وفقيهنا وفقيه خراسان.


وقال أبو الطيب حاتم بن منصور الكسي يقول محمد بن إسماعيل آية من آيات الله في بصره ونفاذه من العلم.


وقال سليم بن مجاهد يقول لو أن وكيعا وابن عيينة وابن المبارك كانوا في الأحياء لاحتاجوا إلى محمد بن إسماعيل.


وروي عن قتيبة بن سعيد أنه قال لو كان محمد في الصحابة لكان آية. نظرت في الحديث ونظرت في الرأي وجالست الفقهاء والزهاد والعباد ما رأيت منذ عقلت مثل محمد بن إسماعيل.


وقال الإمام أحمد بن حنبل: لم يجئنا من خراسان مثل محمد بن إسماعيل.


وقال أبو عبد الله الحاكم: محمد بن إسماعيل البخاري إمام أهل الحديث.


قال أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة: ما رأيت تحت أديم السماء أعلم بحديث رسول الله وأحفظ له من محمد بن إسماعيل.


قال محمد بن حمدون بن رستم سمعت مسلم بن الحجاج وجاء إلى البخاري فقال دعني أقبل رجليك يا أستاذ الأستاذين وسيد المحدثين وطبيب الحديث في علله.


وقال سعيد بن جعفر: سمعت العلماء بالبصرة يقولون ما في الدنيا مثل محمد بن إسماعيل في المعرفة والصلاح.


--------------------------------------------------------------------------------


من كرم البخاري وسماحته :


قال محمد بن أبي حاتم كانت له قطعة أرض يؤجرها كل سنة بسبع مائة درهم فكان ذلك المؤجر ربما حمل منها إلى أبي عبد الله قثاة أو قثاتين لأن أبا عبد الله كان معجبا بالقثاء النضيج وكان يؤثره على البطيخ أحيانا فكان يهب للرجل مائة درهم كل سنة لحمله القثاء إليه أحيانا. قال وسمعته يقول كنت أستغل كل شهر خمس مائة درهم فأنفقت كل ذلك في طلب العلم فقلت كم بين من ينفق على هذا الوجه وبين من كان خلوا من المال فجمع وكسب بالعلم حتى اجتمع له فقال أبو عبد الله: ما عند الله خير وأبقى (الشورى:36)


وكان يتصدق بالكثير يأخذ بيده صاحب الحاجة من أهل الحديث فيناوله ما بين العشرين إلى الثلاثين وأقل وأكثر من غير أن يشعر بذلك أحد وكان لا يفارقه كيسه.


ويقول عبد الله بن محمد الصارفي: كنت عند أبي عبد الله البخاري في منزله فجاءته جارية وأرادت دخول المنزل فعثرت على محبرة بين يديه فقال لها: كيف تمشين؟ قالت إذا لم يكن طريق كيف أمشي فبسط يديه وقال لها اذهبي فقد أعتقتك. قال فقيل له فيما بعد يا أبا عبد الله أغضبتك الجارية قال إن كانت أغضبتني فإني أرضيت نفسي بما فعلت.


--------------------------------------------------------------------------------


محنة البخاري :


تعرض البخاري للامتحان والابتلاء، وكثيرا ما تعرض العلماء الصادقون للمحن فصبروا على ما أوذوا في سبيل الله، ولقد حسد البعض البخاري لما له من مكانة عند العلماء وطلاب العلم وجماهير المسلمين في كل البلاد الإسلامية، فأثاروا حوله الشائعات بأنه يقول بخلق القرآن، ولذلك قصة يرويها أبو أحمد بن عدي فيقول: ذكر لي جماعة من المشايخ أن محمد بن إسماعيل البخاري لما ورد نيسابور اجتمع الناس عليه فحسده بعض من كان في ذلك الوقت من مشايخ نيسابور لما رأوا إقبال الناس إليه واجتماعهم عليه. فقال لأصحاب الحديث: إن محمد بن إسماعيل يقول اللفظ بالقران مخلوق فامتحنوه في المجلس فلما حضر الناس مجلس البخاري قام إليه رجل فقال يا أبا عبد الله ما تقول في اللفظ بالقران مخلوق هو أم غير مخلوق فأعرض عنه البخاري ولم يجبه، فقال الرجل يا أبا عبد الله فأعاد عليه القول فأعرض عنه، ثم قال في الثالثة فالتفت إليه البخاري وقال القرآن كلام الله غير مخلوق وأفعال العباد مخلوقة والامتحان بدعة فشغب الرجل وشغب الناس وتفرقوا عنه وقعد البخاري في منزله. وقالوا له بعد ذلك ترجع عن هذا القول حتى نعود إليك قال لا أفعل إلا أن تجيئوا بحجة فيما تقولون أقوى من حجتي وأعجبني من محمد بن إسماعيل ثباته، وكان يقول أما أفعال العباد فمخلوقة فقد حدثنا علي بن عبد الله حدثنا مروان بن معاوية حدثنا أبو مالك عن ربعي عن حذيفة قال: قال النبي : إن الله يصنع كل صانع وصنعته.


وبه قال وسمعت عبيد الله بن سعيد يقول سمعت يحيى بن سعيد يقول ما زلت أسمع أصحابنا يقولون إن أفعال العباد مخلوقة قال البخاري حركاتهم وأصواتهم واكتسابهم وكتابتهم مخلوقة فأما القرآن المتلو المبين المثبت في المصاحف المسطور المكتوب الموعى في القلوب فهو كلام الله ليس بمخلوق قال الله تعالى {بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم} (العنكبوت 49).


وقال البخاري : القرآن كلام الله غير مخلوق ومن قال مخلوق فهو كافر.


وقال أيضا: من زعم من أهل نيسابور وقومس والري وهمذان وحلوان وبغداد والكوفة والبصرة ومكة والمدينة أني قلت لفظي بالقرآن مخلوق فهو كذاب فإني لم أقله إلا أني قلت أفعال العباد مخلوقة.


وقال أحمد بن سلمة: دخلت على البخاري فقلت يا أبا عبد الله هذا رجل مقبول بخراسان خصوصا في هذه المدينة وقد لج في هذا الحديث حتى لا يقدر أحد منا أن يكلمه فيه فما ترى فقبض على لحيته ثم قال "وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد" (غافر 44) اللهم إنك تعلم أني لم أرد المقام بنيسابور أشرا ولا بطرا ولا طلبا للرئاسة إنما أبت علي نفسي في الرجوع إلى وطني لغلبة المخالفين وقد قصدني هذا الرجل حسدا لما آتاني الله لا غير ثم قال لي يا أحمد إني خارج غدا لتتخلصوا من حديثه لأجلي، فأخبرت جماعة أصحابنا فو الله ما شيعه غيري كنت معه حين خرج من البلد وأقام على باب البلد ثلاثة أيام لإصلاح أمره.


وقال محمد بن أبي حاتم أتى رجل عبد الله البخاري فقال يا أبا عبد الله إن فلانا يكفرك فقال: " قال النبي :" إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء به أحدهما" وكان كثير من أصحابه يقولون له إن بعض الناس يقع فيك فيقول "إن كيد الشيطان كان ضعيفا" (النساء 76)، ويتلو أيضا "ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله" (فاطر 43) فقال له عبد المجيد بن إبراهيم كيف لا تدعو الله على هؤلاء الذين يظلمونك ويتناولونك ويبهتونك، فقال: قال النبي "اصبروا حتى تلقوني على الحوض" وقال "من دعا على ظالمه فقد انتصر"