أصوات من السماء (1)
الصوت الملائكي .. الشيخ محمد رفعت
بقلم: عثمان حنزاز
يقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه الدرامي عن البراء قال: "حسنوا القرآن بأصواتكم، فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسنا" . وروى أحمد وابن ماجة والدارمي عن سعد بن إبي وقاص قال: قال صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من لم يتغن بالقرآن" . وعن طاوس قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الناس أحسن صوتا للقرآن وأحسن قراءة قال: "من إذا سمعته يقرأ أريت أنه يخشى الله" رواه الدارمي.
كان من هؤلاء الذين زينوا أصواتهم بالقرآن وإذا سمعتهم يقرؤون القرآن أريت أنهم يخشون الله الشيخ محمد رفعت أمير المجودين وعميدهم، أعظم من قرأ القرآن في القرن العشرين، وصاحب الصوت الملائكي الذي أسر بصوته الجميل والخاشع قلوب الملايين من المسلمين وغير المسلمين، الذين تأثروا بقراءته الخاشعة والمفسرة لمعاني القرآن الكريم لفظا ومعنى، فكان أسلوبا فريدا في التلاوة. قال الكاتب الصحفي والاداعي ضياء الدين بيبرس "كان للخشوع في صوت الشيخ رفعت صدى عميق، فكأنه يعيد اكتشاف الإسلام في صدر المسلم مرة أخرى، ويفتح الباب على مصراعيه في صدر غير المسلم او حتى من لا يعرف العربية ولم ... وفي صوته بحة ذات شجن وقبل البحة يتجسد الخشوع بمعنى انك لا تشعر انه يتلو بقدر ما تشعر انه يسبح بحمد الله في كل آية يقراها، كان صوته نفاذا إلى قلب من يسمعه لأنه من قلبه وليس من حنجرته وعندما يتلو الشيخ رفعت القران تشعر انه يتيه به على العالمين" [1].
ولد الشيخ محمد رفت يوم الإثنين 9 ماي 1882 في حي "المغربلين" بالدرب الأحمر بالقاهرة، فقد بصره في السنة الثانية وعندما بلغ الخامسة من عمره دفع به أبوه "محمود بك" إلى كتّاب مسجد فاضل باشا بـ"درب الجماميز"، لحفظ وخدمة القرآن الكريم على يد أستاذيه السيخ محمد البغدادي والشيخ السمالوطي ، فأتم حفظه في السنة التاسعة من عمره وقبل بلوغه السادسة عشر من عمره تعلم التجويد ومنحت له شهادة إجادة حفظ القرآن وتجويده التي جاء فيها: "أنه وبعد أن قرأ علينا الشيخ محمد رفعت القرآن الكريم تلاوة وترتيلا ومجودا ومجزءا فقد منحته الاعتراف بأهليته لترتيل القرآن وتجويده" [2].
ثم بدأ الشيخ محمد رفعت بقراءة القرآن في المناسبات الاجتماعية والدينية، وفي كل يوم خميس يقرأ القرآن بالمسجد المقابل لمكتب فاضل باشا، حتى عين قارئا للسورة كل جمعة، وكان من شدة حلاوة صوته وعذوبة أداءه، امتلاء المسجد عن آخره بالمصلين حتى في الطرقات المؤدية إليه. يستمعون إلى صوته الملائكي. وظلَّ يقرأ القرآن ويرتله في هذا المسجد قرابة الثلاثين عامًا وفاءً منه للمسجد الذي بدأ فيه. ويصف الموسيقار "محمد عبد الوهاب" صوت الشيخ محمد رفعت بأنه ملائكي يأتي من السماء لأول مرة.
لم يكتف الشيخ محمد رفعت بما حفظه وتعلمه من شيخه بل اجتهد في تعلم علوم القراءة والتفسير حتى يعرف معاني الكلمات والآيات، ودرس الموسيقى و المقامات وتعلم قواعدها وأصولها، وكانت له مكتبة كبيرة من الأوبريت والسنفونيات العالمية كموسيقى "بتهوفن"، و"موزارت"، و"فاجنر"، وحفظ مئات الأدوار والتواشيح والقصائد الدينية.
فقد "كان صوته وفنه في التلاوة نفحة سماوية باهرة ملأت الدنيا وشغلت الناس ، ولم تترك لمعاصريه من المقرئين إلا مساحة متواضعة يتحركون فيها إلى جواره ، وكان صوت الشيخ رفعت فريدا في تكوينه ، فقد كان على صغر حجمه واسع المساحة معقد التكوين ،تجمع أوتاره الفذة بين القرار والجواب وجواب الجواب في لمح البصر كأنه فرقة موسيقية كاملة..." [3].
وقد ساعده على ذلك معاصرته للعديد من مشايخ القراءة والغناء العربي كالشيخ البربري وحنفي برعي والمناخلي وإسماعيل سكر... الذين استقى منهم الشيخ رفعت أسلوب التلاوة وطريقة الأداء. كما تشرب محمد رفعت من الشيخ أبو العلا محمد وعبده الحامولي ومحمد عثمان، حلاوة الصوت والنغم والانتقال عبر المقامات، فأخذ من كل واحد منهم ما يميزه عن الآخرين، فصنع لنفسه أسلوبا فريدا في الأداء حتى أصبح أول قارئ للقرآن في مصر كلها.
قال عنه الأديب "محمد السيد المويلحي" "سيد قراء هذا الزمن، موسيقيّ بفطرته وطبيعته، إنه يزجي إلى نفوسنا أرفع أنواعها وأقدس وأزهى ألوانها، وإنه بصوته فقط يأسرنا ويسحرنا دون أن يحتاج إلى أوركسترا" [4].
كان الشيخ رحمه الله أول من افتتح الإذاعة المصرية يوم الخميس 13 ماي 1934 بترشيح من البرنس محمد على الذي استمع إليه في أحد المآتم وأعجب بصوته وبأسلوب تلاوته الرائع وافتتح الإذاعة بقراءة سورة الفتح إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ، وقد سجل له قبل ذلك صديقاه زكريا باشا مهران صاحب بنك مصر والحاج محمد خميس التاجر الكبير المعروف في ذلك الوقت سورتي الكهف ومريم على أسطوانة.
تميز الشيخ محمد رفعت بالعطف والرحمة بالآخرين ومجالسته الفقراء والمحتاجين وببساطة عيشه وتواضعه وعفة نفسه وزهده فيما في أيدي الناس، فكان لا يأخذ أجرا على القراءة. ومن تعظيمه لكتاب الله لم يشأ أن يقرأ في الإذاعات أو يسجل القراءة في اسطوانات حتى استفتى الشيخ المراغي شيخ الأزهر في ذلك الوقت فأفتى له بجواز ذلك. وعَرض عليه الموسيقار محمد عبد الوهاب أن يسجِّل له القرآن الكريم كاملاً مقابل أي أجر يطلبه، فاعتذر الشيخ خوفًا من أن يمسَّ أسطوانة القرآن سكران أو جُنُب[5]. وتنافست كبريات إذاعات العالم آنذاك كإذاعة برلين ولندن وباريس على أن يسجلوا له إلا أنه كان يرفض، وكان من أقواله رحمه الله "أنا لا أبحث عن المال أبدًا، فإن الدنيا كلها عَرَضٌ زائل" .
يقول الشيخ القوصي: "عاش الشيخ محمد رفعت في بلده مصر لم يبرحها، ولم يستجب للبلاد الكثيرة التي طلبته بإلحاح شديد، فقد كان قانعا، ليس من همه جمع المال، وكان عفيفا يرفض ما يقدم إليه في مرضه على سبيل الهدايا أو العون" [6].
عرف عنه كثرة البكاء فكان يقرأ القرآن والدموع تنهمر من عينيه يتأثر بقراءته كل من استمع إليه، وكانت تحدث حالات من الوجد والإغماء من شدة التأثر بصوته الفريد، وقد أسلم على يديه الكثير ممن استمعوا إلى صوته الخاشع على جهلهم باللغة العربية، يقول الأستاذ أحمد البلك: "... وكانت بالمسجد شرفة علوية كبيرة، كان يجلس بها الأجانب يستمعون إلى صوت محمد رفعت الساحر، وبمجرد انتهائه من تلاوة القرآن كانوا يتسابقون في النزول لتقبيل يده، فمن خلال صوته وعلى يده أسلم الكثير" [7].
توفي الشيخ محمد رفعت -رحمه الله- يوم الاثنين 9 مايو 1950 بعد معاناته مع مرض الفُواق (الزغطة) الذي منعه من تلاوة القرآن والكلام وتسبب له في ورم في الحبال الصوتية، عن عمر يناهز ثمانية وستين عامًا، قضاها في رحاب القرآن الكريم وله من أبناء خمسة كان أحدهم يحفظ القرآن وكان صوته جميلا ولكنه لم يحترف القراءة. مخلفا تراثا فنيا في الإذاعة المصرية والعديد من الأشرطة التي مازالت تنتقل من جيل إلى جيل، فقد كان بحق صوت الشعب الذي اجتمعت علية كل فئات وطوائف مصر من مسلمين وأقباط وعشق صوته العديد من المسلمين في العالم، وأسلم على يده العديد من سمعوا صوته الملائكي. يقول الأستاذ محمود السعدنى "ليست هذه مبالغة، فسيد درويش ومحمد رفعت كانا زعيمين من طراز سعد -يقصد سعد زغلول-، وكما التقت طبقات الأمة وطوائفها حول سعد، وكما طربت بسيد درويش، تراها – وهنا العجب – تلتف حول رفعت بطوائفها ولم يحدث قط قبل رفعت أن استمع أقباط مصر إلى قارئ، بل إن استماعهم إليه كان بشغف وبحب وبإعجاب شديد. بل إن عظمة رفعت امتدت إلى خارج هذه الحدود..." [8].
وقد حضر لمأتم الشيخ محمد رفعت آلاف من المحبين والمعجبين بصوته من مختلف أنحاء العالم وقد نعته الإذاعة المصرية عند وفاته بقولها: "أيها المسلمون، فقدنا اليوم عَلَمًا من أعلام الإسلام" وعندما سمع مفتي سوريا بوفاته قال: "رحم الله شبابه فقد جدد شباب الإسلام" [9].
ونختم هذه النبذة التعريفية بالشيخ محمد رفعت، بما قاله الشيخ محمد متولي الشعراوي - رحمه الله - عندما سئل يومًا عن رأيه في كل من الشيوخ: محمود خليل الحصري، وعبد الباسط عبد الصمد، ومصطفى إسماعيل، ومحمد رفعت، فأجاب بقوله: "إذا أردنا أحكام التلاوة فهو الحصري، وإن أردنا حلاوة الصوت فهو عبد الباسط عبد الصمد، وإذا أردنا النَّفَس الطويل مع العذوبة فهو مصطفى إسماعيل، وإذا أردنا هؤلاء جميعًا فهو الشيخ محمد رفعت" [10].
[1] | شكري القاضي عباقرة التلاوة في القرن العشرين. |
[2] | الشيخ عادل مسلم قصة حياة الشيخ محمد رفعت. |
[3] | الكاتب والناقد الكبير كمال النجمي مقدمة كتاب الشيخ محمد إسماعيل. |
[4] | الأديب محمد السيد المويلحي مجلة الرسالة. |
[5] | الشيخ عادل مسلم قصة حياة الشيخ محمد رفعت. |
[6] | احمد البلك أشهر من قرأ القران في العصر الحديث الصفحة 18/ دار المعرف القاهرة مصر. |
[7] | أحمد البلك أشهر من قرأ القران في العصر الحديث الصفحة 14 / دار المعرف القاهرة مصر. |
[8] | محمود السعدنى - ألحان من السماء الصفحة 17 / دار أخبار اليوم طبعة 1996. |
[9] | محمود السعدنى - الحان من السماء الصفحة 19 / دار أخبار اليوم طبعة 1996. |
[10] | احمد البلك أشهر من قرأ القران في العصر الحديث الصفحة 11 دار المعرف القاهرة مصر. |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق