الاثنين، 9 نوفمبر 2015

أصوات من السماء .. معجزة التلاوة.. الشيخ مصطفى إسماعيل

أصوات من السماء (2)
معجزة التلاوة.. الشيخ مصطفى إسماعيل

بقلم: عثمان حنزاز
الشيخ مصطفى إسماعيل معجزة التلاوة ونبوءة الشيخ محمد رفعت رحمه الله، صاحب الحنجرة الذهبية الذي تميز بأداء فريد في القراءة والانتقال بين النغمات والمقامات بأسلوب بديع ليس له مثيل، جمع بين علم القراءات وأحكام التلاوة وعلم التفسير وعلم المقامات حتى أصبح القارئ الأول في مصر. "كان متمكنا من الألحان والأنغام إلى حد لم يضاهه أحد فيها" [1].
كان رائع الصوت مهيب الطلعة أنيق الهندام وقور الهيئة عفيف النفس سريع البديهة، امتلك القدرة على الارتجال وفن التأليف الآلي من خلال صوته الذي ينتمي لطبقة "تينور". عرف عنه وهو طفل كثرة الحركة وحدة الطباع وميله إلى الانعزال حيث كان يجلس تحت شجرة، وعندما يخلو المكان من الناس يرفع صوته بالقرآن فيجتمع عليه أهل القرية من شدة جمال صوته، فقد كان صوته بحق "أداة أراد الله من خلالها أن يحببنا في القرآن" [2].
يقول محمود السعدني في تقديمه للشيخ مصطفى إسماعيل: "صوته هو أجمل صوت بين المقرئين، بل هو أجمل صوت بين المطربين أيضا، إن صوته أجمل من صوت عبد الوهاب وفريد الأطرش ومحمد قنديل وعبد الحليم، ولولا أن صوته "يضيع" في طبقة القرار لكان أجمل وأحلى وأقوى صوت في الوجود، فليس لصوته نظير في الطبقات العليا، وهو صاحب طريقة فذة فرضت نفسها على العصر كله، وهو إمام المقرئين باعتراف جميع المقرئين، وشهرته تدوي كالطبل في جميع أنحاء العالم العربي من المحيط إلى الخليج" [3].
ولد الشيخ مصطفى إسماعيل فى 17 يونيو 1905 بقرية ميت غزال بالقرب من طنطا محافظة الغربية بمصر من بيت عريق وثري، عرف بالكرم وحبه لأهل القرآن، وهو الولد البكر لوالديه وله ثلاثة إخوة ذكور وأربع إناث، حفظ ربع القرآن الكريم وتعلم الكتابة والقراءة وعمره سنتان عند شيخ القرية عبد الرحمن أبو العينين، ثم انتقل إلى كتاب الشيخ عبد الله شحاته ليتم حفظ القرآن وإتقان القراءة والكتابة وعمره عشر سنوات. ولما علم أبوه وجده بموهبته وحلاوة صوته وكان عمره اثني عشر عاما دفعوا به إلى الشيخ محمد حشيش الذي تعلم منه التجويد والقراءة، ومع مرور الأيام انتقل إلى إتمام دراسة تجويد القرآن وتلاواته بالقراءات العشر على يد الشيخ إدريس فاخر مفتش الكتاتيب الذي راجع مصطفى إسماعيل ثلاثين مرة وأجازه على ذلك وهو في سن السادسة عشرة من عمره. ثم انتقل إلي مدينة طنطا ليدرس العلوم الأزهرية في المسجد الأحمدي، ولكنه لم يكمل دراسته بالمعهد وتفرغ لقراءة القرآن الكريم ليمتع محبيه ومستمعيه بقراءته الجميلة وبصوته الساحر وأدائه الجديد الذي لم يكن يقلد فيه أحدا.
يتحدث الشيخ عن نفسه قائلا: "كان لي أستاذ في المعهد اسمه الشيخ مصطفى المروج إذا سمعنى أقرأ القرآن يقول لي: "يا بنى إن العلم هو القرآن أنت صوتك حلو واتفرغ لقراءة القرآن أحسن لك واجعله وقفا للقرآن..."" [4].
بدأت شهرة الشيخ تتسع في محافظة الغربية ثم مدن الدلتا ثم القاهرة، وتوسعت قاعدة مستمعيه حتى أصبح له في كل مكان من مصر "سميعة". لكن الفرصة الحقيقة في حياة الشيخ مصطفى إسماعيل عندما التقى بالشيخ محمد الصيفى (أبو القراء) رحمه الله رئيس رابطة تضامن قراء القرآن الكريم، ورشحه للقراءة في الإذاعة مكان الشيخ عبد الفتاح الشعشاعى رحمه الله الذي كان مريضا، وذلك يوم الجمعة 22 فبراير سنة 1943 بالمسجد الحسينى بالقاهرة الذي كانت منه الانطلاقة إلى الشهرة، ليس في مصر وحدها ولكن في العالم الاسلامى كله.
بعد قراءة الشيخ بالإذاعة تعاقد القصر الملكي معه يوم 28/4/1943 لإحياء ذكرى الملك فؤاد والد الملك فاروق تم أصبح قارئا للقصر الملكي في ليالي رمضان إلى سنة 1952 وكانت هذه الحفلات تنقل على الإذاعة المصرية، ليبدأ الشيخ مرحلة جديدة من خلال سفره إلى خارج مصر حيث استمتع المسلمون بصوته الساحر في لبنان وسوريا والمغرب والكويت وتركيا وإيران وفي أمريكا وآسيا وأستراليا وكندا ولندن وباريس وكراتشي وكوالالمبور وسان فرانسيسكو... وفي جميع العواصم العربية. وظل على هذا الحال ينتقل من مدينة إلى مدينة ومن دولة إلى دولة ومن سرادق إلى آخر حتى توفي يوم الإثنين 25 دجنبر 1978 ودفن ببيته في القرية التي ولد فيها بميت غزال.
عاصر الشيخ مصطفى إسماعيل عمالقة القراءة كالشيخ إبراهيم سلام ومحمد رفعت والشيخ عوض والشيخ شفيق شهبه والشيخ محمد السعودي والشيخ محمد العقله وغيرهم، الذين استفاد منهم واحتك بهم وزاحمهم بالركب في المناسبات والليالي وهو صبي يستمع إلى آرائهم ونصائحهم ويتعلم منهم طريقة القراءة وأداء الانتقالات.. حتى أصبح من كبار المقرئين.
يقول الشيخ علي الضباع شيخ المقارئ المصرية الأسبق في تقديم للشيخ مصطفى إسماعيل: "إنه كوكب خاص متفرد بين قراء عصره، بمناخه ومحيطاته وعبقه وتضاريسه..." [5].
كما استفاد من عمالقة الغناء والإنشاد في عصره ومن المستمعين الذين كانوا يحيطون به كالشيخ طه الفشني والموسيقار محمد عبد الوهاب.. "وقد تأثر إلى حد كبير في أسلوب تلاوته ب"صالح عبد الحي" صاحب "الموالات" و"الليالي" والقصائد الشهيرة.." [6]. ويعترف الشيخ مصطفى إسماعيل بأنه لم يكن يدرك أنه في قراءته للقرآن الكريم وجود مقامات موسيقية يقول: "أنا لم أكن أعرف المقامات ولم أعزف على العود أو القانون ولكن "السميعة" علموني المقامات فتعليمي تعليم سمعي" [7]. وقد سأله الملحن القدير وعالم المقامات الشهير الشيخ درويش الحريري: عن من علمه كل هذه المقامات؟ فأجاب الشيخ مصطفى: "لقد التقطت أذناي كل ما سمعته طوال حياتي وتمثلته واستنبطت منه طريقتي في الأداء فقال له الشيخ الحريري.. إن فطرتك أقوى وأصح من كل الدراسات ولا يمكن لمعهد فني بأكمله أن يصل إلى ما وصلت إليه فطرتك، هذه هبة من الله تعالى" [8].
وقد سمعته الدكتورة رتيبة الحفني عميدة المعهد العالي للموسيقى ومجموعة من أهل الفن والموسيقى في أربعينية عبد الحليم حافظ في ماي 1977 فقالت "ما هذا الجمال يا شيخ مصطفى... والله أنت وحدك معهد كامل للموسيقى..!!" [9].
كان مصطفى إسماعيل أول قارئ للقران الكريم يحصل على وسام الدولة إبان الاحتفال بعيد العلم 1965. من الرئيس جمال عبد الناصر سنة ‏(16‏ ديسمبر ‏1965) وحظي بتكريم رؤساء الدول كالرئيس اللبناني الأسبق شارل حلو الذي منحه وشاح الأرز من رتبه كوماندوز تقديرا له في يناير ‏1965‏. وفي تركيا استقبله الرئيس فخري كورتورك في القصر الجمهوري وأهداه مصحفا أثريا مكتوبا بماء الذهب ‏سنة 1973 وفي إندونيسيا تم تكريمه من ملك في ذلك الوقت .و"قرأ في القدس مرتين الأولى عام 1960 والثانية عام 1977" [10] في عهد الرئيس أنور السادات الذي اصطحبه معه‏ ليقرأ في صلاة الفجر بالمسجد الأقصى في عيد الأضحى المبارك، "كما كان أول قارئ سجل القرآن الكريم على اسطوانات ويعد ثاني أعظم قارئ لآيات الذكر الحكيم أنجبته الأرض العربية بعد شيخنا الجليل المغفور له الشيخ محمد رفعت" [11].
ونختم حديثنا عن معجزة التلاوة مصطفى إسماعيل بما قاله الناقد الفني المرموق الأستاذ كمال نجمي رحمه الله – "إن صوت الشيخ مصطفى إسماعيل كان أوسع مساحة وأكبر حجما من أصوات المقرئين جميعا، ولم يكن ممكنا وصف جمله وقوته في الثلاثينيات والأربعينيات، ومر صوته بمراحل متعاقبة من شبابه وحتى رحيله وكان أداؤه يساير هذه المرحلة فيجيئ منه في كل مرحلة مقرئ جديد ذو صوت جديد.. إنه قارئ فنان يبدأ بترتيب النغمات وينتقل من نغمة إلى أخرى، أو من مقام إلى آخر في سهولة ويسر مع الأداء المتميز والصوت الجميل وعلى يديه أشهر الكثير من الناس إسلامهم، بل إنه حين كان يذهب إلى بلد من بلدان العالم الإسلامي يتهافت عليه المستمعون، كقطب كبير يريدون أن يقبلوا أكمامه والأرض التي يسير عليها" [12].
تاريخ النشر: الخميس 19 يوليوز/تموز 2012
[1]محمود السعدنى - الحان من السماء الصفحة 132 / دار أخبار اليوم طبعة 1996.
[2]برنامج أوت جديد في عيد الأضحى المبارك صوات من السماء قناة الجزيرة الوثائقية/ الحلقة 14/ رمضان 2010.
[3]شكري القاضي عباقرة التلاوة في القرن العشرين ص 80.
[4]برنامج أصوات من السماء على قناة الجزيرة الوثائقية/ الحلقة 14/ رمضان 2010.
[5]شكري القاضي عباقرة التلاوة في القرن العشرين ص 80.
[6]محمود السعدنى - ألحان من السماء الصفحة 134 / دار أخبار اليوم طبعة 1996.
[7]برنامج أتوجراف تقديم طارق حبيب.
[8]شكري القاضي عباقرة التلاوة في القرن العشرين. ص 76.
[9]نفس المصدر ص 75.
[10]نفس المصدر ص 75.
[11]نفس المصدر ص 75.
[12]نفس المصدر ص80.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق