أصوات من السماء (3): كروان القراء.. الشيخ أبو العينين شعيشع
بقلم: عثمان حنزاز
الشيخ أبو العينين شعيشع شيخ القراء ونقيبهم وكروانهم، من الرعيل الأول من القراء، صاحب الصوت الحزين، والامتداد الأصيل لصوت الشيخ محمد رفعت، ومن أعظم الأصوات التي عرفها العالم الإسلامي، قارئ مخضرم "عاصر مقدار أربعة أجيال من عموم المشايخ بدءً من الشيخ محمد رفعت وكان الشيخ يفتخر أنه ينتسب إلى مدرسة الشيخ محمد رفعت" [1].
كان مدرسة في الإتقان والدقة، "وقيمة حضارية لمصر وهو جزء من حضارتها إذا ذكر القرآن بأدائه وحلاوته وعذوبته ومنطقه العذب وبإحكامه الجيد يذكر الشيخ أبو العينين شعيشع" [2].
كان يمتاز صوته الساحر "بمساحة صوتية تفوق أقصى حدود صوت التينور، صوته قوي ومؤثر كان مدرسة في الأداء وفي تصوير المعنى وفي الفن القرآني الذي لا يخرج عن أحكام التلاوة المتواترة" [3]، لا يمكث في مقام واحد أو في نغمة معينة فهو دوحة من الانتقالات النغمية، وأجمل من قرأ بمقام الراست والبياتي. "كان مجموعة من الأصوات المعبرة المتناغمة، المتزامنة، المتوافقة تخرج في وقت واحد كأنما تعزف على تخت كامل" [4].
عرف الشيخ أبو العينين شعيشع بتواضعه وحبه لأهل القرآن وباكتشافه للعديد من المواهب التي أصبح لها صيت في دولة القراءة، كان يطوف الأرياف والمحافظات للبحث عن المواهب الجديدة والأصوات الجميلة .
كانت ولادة الشيخ أبو العينين أبو شعيشع أبو العينين إبراهيم الشهير باسم الشيخ أبو العينين شعيشع في 22 غشت 1922م بمدينة بيلا بمحافظة كفر الشيخ شمال مصر، وهو الابن الثاني عشر لأبيه، من أسرة متوسطة الدخل، التحق بالمدرسة الابتدائية الأهلية وهو في السادسة من عمره وحفظ بها بعض الأجزاء الصغيرة من القرآن الكريم، وبرزت بها موهبته وتفوقه حتى أصبح القارئ المعتمد للمدرسة في كل صباح وفي الحفلات، يقول الشيخ: "كنت الأول في كل شي، في المدرسة كنت الأول، وفي الكتاب كنت الأحفظ، كنت أول قارئ يقرأ القرآن في الإذاعة وعمري 17 سنة ، كنت أول قارئ سافر إلى الخارج"[5].
اكتشف موهبته ناظر المدرسة منير جرجس وكان مسيحيا ونصحه قائلا: "يا ابني أنت صوتك جميل لازم تحفظ القرآن" [6]، ثم انتقل ناظر المدرسة ومجموعة من الأعيان إلى والدة الشيخ لإقناعها أن تدخله إلى الكتاب لحفظ القرآن "قالوا لها ابنك أبو العينين لابد أن يحفظ القرآن الكريم حتى يصبح قارئا له شأن في مصر فوافقت أمي وتركت المدرسة وتوجهت للكتاب. وكانت بداية تحول في حياتي" [7].
التحق الشيخ أبو العينين شعيشع بكتاب الشيخ يوسف شتا وبدأ حفظ القرآن الكريم وكان شيخ الكتاب يحبه ويقدمه على أقرانه وكان قارئه المفضل في المناسبات، يقول الشيخ في مذكراته: "ذهبت للكتاب لأحفظ القرآن ولم يستغرق معي الأمر كله سوى عامين فقط وبدأت وأنا عمري تسع سنوات انتهيت منه حفظا وتجويدا وكل أحكام القرآن من الإقصاء والإضراب والغنة والمد والوقف وانأ عمري11 عاما" [8].
بعد أن أتم الشيخ أبو العينين شعيشع حفظ القرآن الكريم بدأ مرحلة أخرى من حياته حيث كان يذهب إلى المآتم والأفراح، إما قارئا أو مستمعا لعمالقة القراء في طنطا والمنصورة... يقول: "كنت أذهب لأقرأ في المآتم عندنا في البلد وفي القرى المجاورة لنا مع شقيقي الأكبر أحمد وكنت أتقاضي أجرا وكنت صغيرا جدا وكانت قراءة القرآن فاتحة خير بالنسبة لي ولأسرتي لأني كنت أصرف على أخوتي منها، خاصة أنني كنت مرغوبا في القراءة، وكان أول أجر حصلت عليه 50 قرشا ووصل أجري أحيانا إلى أربعة جنيهات وكنت مازلت وقتها في بلدي بيلا.." [9].
وقد ساعده وجود عمالقة القراءة في ذلك الزمان على صقل موهبته وتكوين شخصية مستقلة في القراءة حيث كان "يسمع في الليالي الكثيرة التي سهرها الشيخ عبد الفتاح الشعشاعي، والشيخ محمد الصيفي، والشيخ محمد رفعت، وذات ليلة كان الشيخ أحمد متعبا، فحل محله الشيخ أبو العينين، وسمعه الشيخ رفعت فأعجب به، وتنبأ له بمستقبل باهر" [10]، بالإضافة إلى العديد من نجوم الغناء والإنشاد في عصره كأم كلثوم وعبد الوهاب والشيخ علي محمود الذي يعد من أهم المنشدين في عصره؛ يقول الشيخ في مذكراته: "أنا كنت أحب الاستماع لأم كلثوم وعبد الوهاب كما كانت تستمع لقراءتي وفي مرة سألها الإعلامي وجدي الحكيم أنت بتحبي تسمعي مين؟ فقالت له أنا أسمع الشيخ محمد رفعت وأبو العينين شعيشع" [11]. ويقول عن علاقته بمحمد عبد الواهب عندما سأله عن المقامات التي يستعملها في القراءة:"قلت له للأمانة أنا لا أفهم في المقامات ولكني أؤدي القرآن بهذه الطريقة ولا أعرف نهاوند سيكا ولا صبا ولا قصة المقامات هذه.. ولكنه قال لي أنك أفضل من تخرج منه مقامات الصبا لأن الشجن طبيعي في صوتك ولم أسمعه من قبل من أي صوت آخر" [12].
لكن المناسبة الفارقة في تاريخ الشيخ أبو العينين شعيشع، عندما تم استدعاؤه للقراءة سنة 1936 من طرف محافظ الدقهلية لافتتاح حفل ذكرى الشهداء بمدينة المنصورة، فقرأ أمام أكثر من 4 آلاف مستمع وأظهر قدرة وبراعة فائقة في الأداء وعمره 14 سنة، ليبدأ طريق الشهرة والنجومية التي جعلته يتربع على عرش التلاوة، وفتحت له الباب ليكون أصغر قارئ بالإذاعة المصرية سنة 1939، والتي رشحه لها الشيخ عبدالله عفيفي إمام الملك في ذلك الوقت الذي استمع لصوته في مأتم الشيخ الخضري أحد شيوخ الأزهر من أبناء بلدته وكان السرادق ممتلئا بالوزراء والمشايخ، يقول الشيخ في مذكراته: "أخذت موعدا من رئيس الإذاعة للمثول أمام اللجنة وقال لي: اللجنة سوف تستمع لك بكرة وهي اللي تحدد صوتك ينفع أم لا. وحضرت للجنة وكان فيها عدد كبير من الممتحنين وكل واحد قرأ خمس دقائق ومشي ولكني أنا قعدت ييجي ساعة وزيادة. وبعدها أحضروا المشرف الإنجليزي على الإذاعة ووجدت الإنجليزي بيعمل أشارة النصر بيده وهو يشير إلي... وبعد أن انتظمت في القراءة بالإذاعة بدأت الدعوات تهل علي من هنا ومن هناك، وصار لي صيت وشهرة لأني كنت أصغر قارئ للقرآن والناس كانت تتعجب لصوتي، ومنذ ذلك الحين كنت أحيي جميع الحفلات الخاصة بالملك والعائلة المالكة سواء للأميرات أو الأمراء... وكانت الحفلات السنوية للوفاة لكل العائلة العلوية بداية من الخديوي عباس وإسماعيل والملك فؤاد كل هذه الحفلات كنت أقرأ فيها." [13].
واصل الشيخ تألقه وتفرده في القراءة حتى أصبح قارئا محترفا وصار له صيت وشهرة، فبدأت العروض تتقاطر عليه كالمطر، فأحيى العديد من الحفلات في مجموعة من الدول، كان أول قارئ يسافر إلى الدول العربية وذلك في عام 1940، سافر إلى المملكة العربية السعودية وقرأ بالمسجد الحرام، وكان أول قارئ مصري يقرأ في المسجد الأقصى بفلسطين، وقرأ بالمسجد الأموي بسوريا وبالمسجد المركز الإسلامي بلندن، وبالعراق واليمن والمغرب وتونس والسودان وإيران التي كان يذهب إليها كثيرا، بالإضافة إلى أمريكا وانجلترا وفرنسا ويوغسلافيا وموسكو وهولندا وإسبانيا وإيطاليا ومعظم دول شرق آسيا وغيرها من الدول.
وتعاقدت معه إذاعة الشرق الأدنى التابعة للجيش البريطاني بالقدس وعمره 18 سنة والتي كان يصل إرسالها إلا مصر وبلاد الشام والعراق وتركيا.
وعلى امتداد مسيرته الطويلة في رحاب القرآن حظي الشيخ أبو العينين شعيشع بالعديد من الأوسمة الرفيعة كوسام الاستحقاق من سوريا ووسام الرافدين من "العراق" ووسام الأرز من "لبنان وأوسمة من فلسطين وتركيا والصومال وباكستان والإمارات وبعض الدول الإسلامية... قبل أن يحصل على وسام الامتياز من الطبقة الأولى عام 1989 وتسلمه خلال احتفال مصر بليلة القدر مصحوبا بقرار كريم من الرئيس السابق مبارك بأن يظل الشيخ شعيشع "نقيبا للقراء" مدى الحياة وإطلاق اسمه على أحد شوارع مدينة بيلا مسقط رأسه بمحافظة كفر الشيخ وعلى أحد شوارع العاصمة" [14].
ظل الشيخ مرتبطا بكتاب الله عز وجل تلاوة وحفظا وتعليما مدارسة ومذاكرة تدبرا وتفهما عناية وتطبيقا دعما ومساندة حتى توفي في 24 يونيو 2011 "كان يقرأ يوميا خمسة أجزاء من القرآن الكريم بعد صلاة الفجر، وكان يعيش مع القرآن يختمه في ستة أيام، عاش للقرآن وعاش مع القرآن وعاش بالقرآن لذلك كان صيته يملأ الآفاق" [15].
ومن الأشياء التي أثرت في مساره كقارئ وفاة ولده مبكرا وتأثره الشديد بوفاته وكانت السبب في الحزن الذي يطغى عليه في القراءة فكسا الشجن صوته، كما تعرض إلى "مرض غريب أثر على حباله الصوتية، ثم وفاة أخيه الشيخ أحمد الذي كان بمثابة الوالد، ولكن الشيخ استطاع بالصبر أن يهزم مرضه ويعود إلى القراءة من جديد" [16].
وقد شغل العديد من المناصب طوال حياته المليئة بخدمة كتاب الله، فهو نقيب قراء جمهورية مصر العربية، وعضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، وعميد المعهد الدولي لتحفيظ القرآن الكريم، وعضو لجنة اختبار القراء بالإذاعة والتليفزيون، وعضو اللجنة العليا للقرآن الكريم بوزارة الأوقاف، وعضو لجنة عمارة المسجد بالقاهرة. وكان قارئ بمسجد السيدة زينب بالإضافة إلى رئاسته للمركز الدولي للقرآن الكريم بالقاهرة، ووكيل أول نقابة القراء، وقارئ السورة بمسجد عمر مكرم، وكان موفدا من قبل وزارة الأوقاف لإحياء شهر رمضان بتركيا ... "وفي بداية الخمسينات كان الشيخ أبوالعينين أول من سجل القرآن الكريم على أسطوانات، وكان قبل عصر التسجيلات يقيم في رمضان بالإذاعة ليؤذن لصلاة الظهر والعصر، وعند المغرب يؤذن للصلاة، ثم يتناول قليلا من التمر، حتى يحين موعد أذان العشاء فيؤذن للصلاة ثم يتوجه إلى منزله لتناول إفطاره" [17].
عرف عن الشيخ أبو العينين أنه أحسن من قلد صوت محمد رفعت مما دفع بالإذاعة المصرية للاستعانة به"في عام 1962... لاستكمال بعض الآيات غير الواضحة في بعض تسجيلات مولانا الشيخ رفعت ورغم أنه قد استقل بشخصيته القرآنية في تلك الآونة إلا أنه نجح باقتدار في مهمته وأصبح من الصعوبة بمكان التمييز بين صوته وصوت الشيخ محمد رفعت في تلك التسجيلات" [18].
لقد كان الشيخ أبو العينين شعيشع نفحة من نفحات الغيب، حملت إلينا أجمل الكلام في أجمل أداء، منحه الله سبحانه وتعالى نعمة الصوت الجميل الذي يجذب الأسماع والقلوب، لتتعلق بكتاب الله عز وجل قراءة وحفظا وتعليما، مدارسة ومذاكرة، تدبرا وتفهما، عناية وتطبيقا، دعما ومساندة، فكان بحق شيخ القراء ونقيبهم وكروان المقرئين.
تاريخ النشر: الأربعاء 1 غشت/آب 2012
[1] | برنامج علًم القرآن بقناة أزهري تقديم الشيخ حسن مرعب 2011. |
[2] | برنامج علًم القرآن بقناة أزهري تقديم الشيخ حسن مرعب 2011. |
[3] | برنامج أصوات من السماء قناة الجزيرة الوثائقية رمضان 2010. |
[4] | برنامج أصوات من السماء قناة الجزيرة الوثائقية رمضان 2010. |
[5] | برنامج أصوات من السماء قناة الجزيرة الوثائقية رمضان 2010. |
[6] | الأهرام المسائي الأعداد من 6703 إلى 6712 لسنة 2009. |
[7] | الأهرام المسائي الأعداد من 6703 إلى 6712 لسنة 2009. |
[8] | الأهرام المسائي الأعداد من 6703 إلى 6712 لسنة 2009. |
[9] | الأهرام المسائي الأعداد من 6703 إلى 6712 لسنة 2009. |
[10] | محمود السعدنى - الحان من السماء الصفحة 70 / دار أخبار اليوم طبعة 1996. |
[11] | الأهرام المسائي الأعداد من 6703 إلى 6712 لسنة 2009. |
[12] | الأهرام المسائي الأعداد من 6703 إلى 6712 لسنة 2009. |
[13] | الأهرام المسائي الأعداد من 6703 إلى 6712 لسنة 2009. |
[14] | شكري القاضي عباقرة التلاوة في القرن العشرين ص 129. |
[15] | برنامج علم القرآن بقناة أزهري تقديم السيخ حسن مرعب 2011. |
[16] | محمود السعدنى - الحان من السماء الصفحة 71 / دار أخبار اليوم طبعة 1996. |
[17] | كتاب أشهر من قرأ القرآن في العصر الحديث لأحمد البلك. |
[18] | شكري القاضي عباقرة التلاوة في القرن العشرين ص 129. |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق