أصوات من السماء (4)
الحنجرة الذهبية.. الشيخ عبد الباسط عبد الصمد
بقلم: عثمان حنزاز
الشيخ عبد الباسط عبد الصمد صاحب الحنجرة الذهبية ومعجزة عصره، حباه الله بصوت مميز وبأسلوب فريد في القراءة، مغلف بالخشوع يصافح الآذان ويلامس أوتار قلوب الملايين. كان صاحب مدرسة متفردة في القراءة، جمعت بين الصوت الجميل وأحكام التلاوة والإلمام بعلم النغم. صوت رتل القرآن في كل بلاد الدنيا، "ظاهرة متميزة وحنجرة قلما يجود الزمان بها" [1]، تنساب في وقار وسكينة ورهبة وخشوع، "يقرأ القرآن بقلبه تحس بذلك إذا استمعت إليه، فإذا صور لنا الجنة نجد الصوت مبتهجا فرحا كأنه دخل الجنة فرأى ما فيها من النعيم فسعد بذلك وأراد أن يشرك الناس في هذه السعادة" [2] كان يقول: القرآن متى قرأ من القلب وصل إلى القلب، وعندما سئل في إحدى البرامج عن سر صوته الجميل قال: "السر في القرآن والإنسان لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا، ولكن الحمد لله توفيق الله هو الذي يوفق وإنما الأعمال بالنيات والعمل فيه إخلاص، والإنسان دائم التوفيق وحليفه، بفضل الله وببركة القرآن الكريم" [3].
كان الشيخ عبد الصمد أخضر العينين، جميل القسمات، مرهف الحس، جميل الصوت، عرف بحيائه وتواضعه الشديد وبعفة نفسه وبحبه وتعظيمه للقرآن الكريم، يمتاز بصوت حاد وبمساحة صوتية كبيرة أهلته أن يقرأ في أي طبقة يريد يقول الأستاذ الدكتور عبد الله الكردي أستاذ الموسيقى العربية بجامعة حلوان:
"مساحة صوت الشيخ عبد الصمد تتسع بحوالي 2 أكتاف ونصف وبلغة الموسيقى الأكتاف عبارة عن 8 درجات كان يبدأ من درجة فا ويصل إلى درجة ري" [4].
ولد الشيخ عبد الباسط بن محمد بن عبد الصمد بن سليم في يناير سنة 1927 بقرية المراعزة التابعة لبلدة أرمنت بمحافظة قنا بصعيد مصر، من عائله عريقة عرفت بحفظ وتعليم القرآن الكريم، فقد كان أبوه وجده من الذين يحفظون ويجودون القرآن الكريم وله شقيقان، حفظ القرآن الكريم على يد الشيخ محمد الأمير شيخ كتاب القرية وراجعه على يد الشيخ محمد سليم حمادة وتلقى على يديه القراءات السبع. يقول الشيخ عبد الباسط عن بداية طفولته:
"كان سني عشر سنوات أتممت خلالها حفظ القرآن وكان والدي موظفاً بوزارة المواصلات، وكان جدي من العلماء، فطلبت منهما أن أتعلم القراءات فأشارا علي أن أذهب إلى مدينة طنطا بالوجه البحري لأتلقى علوم القرآن والقراءات على يد الشيخ (محمد سليم) ولكن المسافة بين أرمنت إحدى مدن جنوب مصر وبين طنطا إحدى مدن الوجه البحري كانت بعيدة جداً.. وقبل التوجه إلى طنطا بيوم واحد علمنا بوصول الشيخ محمد سليم إلى أرمنت ليستقر بها مدرساً للقراءات بالمعهد الديني بأرمنت، فذهبت إليه وراجعت عليه القرآن كله ثم حفظت الشاطبية التي هي المتن الخاص بعلم القراءات السبع" [5].
في عام 1940 بدا الشيخ عبد الباسط يحترف قراءة القرآن وكانت أولى لياليه في قريته في مأتم أحد أقاربه وقرأ عشر ساعات كاملة
[6] ويرجع الفضل في ذلك للشيخ محمد سليم الذي أعجب بموهبته وصوته فأولاه رعاية خاصة فآثره بحبه ورعايته ومودته، كان يأخذه معه إلى المناسبات ويقدمه للقراءة أمام الناس، فكانت مناسبة لصقل موهبته وتمرينًا لصوته وتدريبا لأدائه، حتى توسعت شهرته وأصبح قارئا مشهورا في قريته وفي صعيد مصر كله.
بدأ السيخ عبد الباسط يعشق سماع القرآن الكريم من المشايخ الكبار في مساجد ارمنت وفي مقابرها، لكنه يفضل سماعه منبعثا من ذلك الصندوق السحري الذي اسمه الراديو
[7]، فكان يقطع المسافات الطول باحثا عن مقهى يتوفر على هذا الجهاز ليستمع إلى كبار المقرئين. يقول الشيخ: كنت أحب أن اسمع الشيخ محمد رفعت والشيخ مصطفى إسماعيل والشيخ الشعشاعي[8].
شارك الشيخ عبد الصمد سنة 1950 إلى جانب كبار المقرئين في عصره كالشيخ عبد الفتاح الشعشاعي والشيخ مصطفى إسماعيل.. في إحياء احتفال مولد السيدة زينب، فأذهل الحاضرين بقراءته العذبة وبصوته الساحر وبطريقته الفريدة فتفاعل معه الجميع فكانت بداية انطلاقه إلى الشهرة وتأسيس "المدرسة الباسطية". يقول الشيخ عبد الباسط:
"كان لي طريقة خاصة في قراءة القرآن لم آخّذها من أحد، حتى أصبح الكثير من المقلدين لي" [9]. لكن الانطلاقة الحقيقة كانت سنة 1951 عندما تقدم الشيخ عبد الصمد إلى الإذاعة المصرية وتم قبوله قارئا بها ليطرق بها باب دولة القراء حتى أصبح "أحد الأقطاب الخمسة الذين يمثلون في مدرسة التلاوة أصابع الكف المباركة، ليمثل في القرآن الكريم مدرسة متميزة، أولهم الشيخ محمود علي البنا ميزان القرآن والشيخ خليل الحصري والشيخ مصطفى إسماعيل سلطان القراء والشيخ عبد الباسط عبد الصمد صوت مكة والشيخ الخامس والجليل لهذه المدرسة محمد صديق المنشاوي نهر القرآن في النداوة والطلاوة" [10].
حظي الشيخ عبد الباسط عبد الصمد بتكريم وتقدير الملايين من المستمعين من بينهم عدد كبير من ملوك ورؤساء العالم العربي والإسلامي
[11] حيث كرمته عدة دول، منها سوريا بمنحه وسام الاستحقاق، ووسام الأرز من لبنان والوسام الذهبي من ماليزيا ووسام من السنغال وآخر من المغرب، وقرأ في اكبر مساجد العالم كالمسجد الحرام بمكة المكرمة والمسجد النبوي الشريف بالمدينة المنورة، والمسجد الأقصى بالقدس الشريف وكذلك المسجد الإبراهيمي بالخليل بفلسطين، والمسجد الأموي بدمشق، كما سافر إلى معظم دول آسيا وإفريقيا والولايات المتحدة وفرنسا ولندن والهند وجاكرتا بدولة اندونيسيا "وكان أول قارئ يدخل جنوب إفريقيا سنة 1966 وحينما قرأ القرآن أسلمت أناس كثيرة على صوته" [12] وبعد وفاته تم تكريمه بوسام رئاسي في الاحتفال بليلة القدر عام 1990م .
وتحدثت عنه أكبر وأشهر الجرائد العالمية والعربية
"فقد وصفته الصحافة الفرنسية "بالصوت الأسطوري" لما في صوته من جاذبية وتأثير بعد أن قرأ القرآن ليلتين متتاليتين على مسرح الأمانديية في باريس، فإذا بالفرنسيين الذين شاركوا الجاليات العربية في الاستماع للشيخ عبد الصمد يصفقون عقب كل تلاوة تأثرا بالصوت الرخيم" [13].
عاصر الشيخ كبار المقرئين في عصره واستفاد منهم كالشيخ محمد رفعت والشيخ مصطفى إسماعيل والشيخ الشعشاعي. وظل يصدح بصوته الذهبي في كل مكان حتى توفي في 30 نونبر 1988 متأثرا بمرض السكر والتهاب الكبد وقد شيعه الآلاف من المحبين والعديد من سفراء دول العالم في جنازة رسمية، تقديرا لهذا الشيخ الجليل الذي ملأ الدنيا بصوته الخاشع الذي صافح قلوب المحبين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق