الاثنين، 9 نوفمبر 2015

أصوات من السماء .. معجزة التلاوة.. الشيخ مصطفى إسماعيل

أصوات من السماء (2)
معجزة التلاوة.. الشيخ مصطفى إسماعيل

بقلم: عثمان حنزاز
الشيخ مصطفى إسماعيل معجزة التلاوة ونبوءة الشيخ محمد رفعت رحمه الله، صاحب الحنجرة الذهبية الذي تميز بأداء فريد في القراءة والانتقال بين النغمات والمقامات بأسلوب بديع ليس له مثيل، جمع بين علم القراءات وأحكام التلاوة وعلم التفسير وعلم المقامات حتى أصبح القارئ الأول في مصر. "كان متمكنا من الألحان والأنغام إلى حد لم يضاهه أحد فيها" [1].
كان رائع الصوت مهيب الطلعة أنيق الهندام وقور الهيئة عفيف النفس سريع البديهة، امتلك القدرة على الارتجال وفن التأليف الآلي من خلال صوته الذي ينتمي لطبقة "تينور". عرف عنه وهو طفل كثرة الحركة وحدة الطباع وميله إلى الانعزال حيث كان يجلس تحت شجرة، وعندما يخلو المكان من الناس يرفع صوته بالقرآن فيجتمع عليه أهل القرية من شدة جمال صوته، فقد كان صوته بحق "أداة أراد الله من خلالها أن يحببنا في القرآن" [2].
يقول محمود السعدني في تقديمه للشيخ مصطفى إسماعيل: "صوته هو أجمل صوت بين المقرئين، بل هو أجمل صوت بين المطربين أيضا، إن صوته أجمل من صوت عبد الوهاب وفريد الأطرش ومحمد قنديل وعبد الحليم، ولولا أن صوته "يضيع" في طبقة القرار لكان أجمل وأحلى وأقوى صوت في الوجود، فليس لصوته نظير في الطبقات العليا، وهو صاحب طريقة فذة فرضت نفسها على العصر كله، وهو إمام المقرئين باعتراف جميع المقرئين، وشهرته تدوي كالطبل في جميع أنحاء العالم العربي من المحيط إلى الخليج" [3].
ولد الشيخ مصطفى إسماعيل فى 17 يونيو 1905 بقرية ميت غزال بالقرب من طنطا محافظة الغربية بمصر من بيت عريق وثري، عرف بالكرم وحبه لأهل القرآن، وهو الولد البكر لوالديه وله ثلاثة إخوة ذكور وأربع إناث، حفظ ربع القرآن الكريم وتعلم الكتابة والقراءة وعمره سنتان عند شيخ القرية عبد الرحمن أبو العينين، ثم انتقل إلى كتاب الشيخ عبد الله شحاته ليتم حفظ القرآن وإتقان القراءة والكتابة وعمره عشر سنوات. ولما علم أبوه وجده بموهبته وحلاوة صوته وكان عمره اثني عشر عاما دفعوا به إلى الشيخ محمد حشيش الذي تعلم منه التجويد والقراءة، ومع مرور الأيام انتقل إلى إتمام دراسة تجويد القرآن وتلاواته بالقراءات العشر على يد الشيخ إدريس فاخر مفتش الكتاتيب الذي راجع مصطفى إسماعيل ثلاثين مرة وأجازه على ذلك وهو في سن السادسة عشرة من عمره. ثم انتقل إلي مدينة طنطا ليدرس العلوم الأزهرية في المسجد الأحمدي، ولكنه لم يكمل دراسته بالمعهد وتفرغ لقراءة القرآن الكريم ليمتع محبيه ومستمعيه بقراءته الجميلة وبصوته الساحر وأدائه الجديد الذي لم يكن يقلد فيه أحدا.
يتحدث الشيخ عن نفسه قائلا: "كان لي أستاذ في المعهد اسمه الشيخ مصطفى المروج إذا سمعنى أقرأ القرآن يقول لي: "يا بنى إن العلم هو القرآن أنت صوتك حلو واتفرغ لقراءة القرآن أحسن لك واجعله وقفا للقرآن..."" [4].
بدأت شهرة الشيخ تتسع في محافظة الغربية ثم مدن الدلتا ثم القاهرة، وتوسعت قاعدة مستمعيه حتى أصبح له في كل مكان من مصر "سميعة". لكن الفرصة الحقيقة في حياة الشيخ مصطفى إسماعيل عندما التقى بالشيخ محمد الصيفى (أبو القراء) رحمه الله رئيس رابطة تضامن قراء القرآن الكريم، ورشحه للقراءة في الإذاعة مكان الشيخ عبد الفتاح الشعشاعى رحمه الله الذي كان مريضا، وذلك يوم الجمعة 22 فبراير سنة 1943 بالمسجد الحسينى بالقاهرة الذي كانت منه الانطلاقة إلى الشهرة، ليس في مصر وحدها ولكن في العالم الاسلامى كله.
بعد قراءة الشيخ بالإذاعة تعاقد القصر الملكي معه يوم 28/4/1943 لإحياء ذكرى الملك فؤاد والد الملك فاروق تم أصبح قارئا للقصر الملكي في ليالي رمضان إلى سنة 1952 وكانت هذه الحفلات تنقل على الإذاعة المصرية، ليبدأ الشيخ مرحلة جديدة من خلال سفره إلى خارج مصر حيث استمتع المسلمون بصوته الساحر في لبنان وسوريا والمغرب والكويت وتركيا وإيران وفي أمريكا وآسيا وأستراليا وكندا ولندن وباريس وكراتشي وكوالالمبور وسان فرانسيسكو... وفي جميع العواصم العربية. وظل على هذا الحال ينتقل من مدينة إلى مدينة ومن دولة إلى دولة ومن سرادق إلى آخر حتى توفي يوم الإثنين 25 دجنبر 1978 ودفن ببيته في القرية التي ولد فيها بميت غزال.
عاصر الشيخ مصطفى إسماعيل عمالقة القراءة كالشيخ إبراهيم سلام ومحمد رفعت والشيخ عوض والشيخ شفيق شهبه والشيخ محمد السعودي والشيخ محمد العقله وغيرهم، الذين استفاد منهم واحتك بهم وزاحمهم بالركب في المناسبات والليالي وهو صبي يستمع إلى آرائهم ونصائحهم ويتعلم منهم طريقة القراءة وأداء الانتقالات.. حتى أصبح من كبار المقرئين.
يقول الشيخ علي الضباع شيخ المقارئ المصرية الأسبق في تقديم للشيخ مصطفى إسماعيل: "إنه كوكب خاص متفرد بين قراء عصره، بمناخه ومحيطاته وعبقه وتضاريسه..." [5].
كما استفاد من عمالقة الغناء والإنشاد في عصره ومن المستمعين الذين كانوا يحيطون به كالشيخ طه الفشني والموسيقار محمد عبد الوهاب.. "وقد تأثر إلى حد كبير في أسلوب تلاوته ب"صالح عبد الحي" صاحب "الموالات" و"الليالي" والقصائد الشهيرة.." [6]. ويعترف الشيخ مصطفى إسماعيل بأنه لم يكن يدرك أنه في قراءته للقرآن الكريم وجود مقامات موسيقية يقول: "أنا لم أكن أعرف المقامات ولم أعزف على العود أو القانون ولكن "السميعة" علموني المقامات فتعليمي تعليم سمعي" [7]. وقد سأله الملحن القدير وعالم المقامات الشهير الشيخ درويش الحريري: عن من علمه كل هذه المقامات؟ فأجاب الشيخ مصطفى: "لقد التقطت أذناي كل ما سمعته طوال حياتي وتمثلته واستنبطت منه طريقتي في الأداء فقال له الشيخ الحريري.. إن فطرتك أقوى وأصح من كل الدراسات ولا يمكن لمعهد فني بأكمله أن يصل إلى ما وصلت إليه فطرتك، هذه هبة من الله تعالى" [8].
وقد سمعته الدكتورة رتيبة الحفني عميدة المعهد العالي للموسيقى ومجموعة من أهل الفن والموسيقى في أربعينية عبد الحليم حافظ في ماي 1977 فقالت "ما هذا الجمال يا شيخ مصطفى... والله أنت وحدك معهد كامل للموسيقى..!!" [9].
كان مصطفى إسماعيل أول قارئ للقران الكريم يحصل على وسام الدولة إبان الاحتفال بعيد العلم 1965. من الرئيس جمال عبد الناصر سنة ‏(16‏ ديسمبر ‏1965) وحظي بتكريم رؤساء الدول كالرئيس اللبناني الأسبق شارل حلو الذي منحه وشاح الأرز من رتبه كوماندوز تقديرا له في يناير ‏1965‏. وفي تركيا استقبله الرئيس فخري كورتورك في القصر الجمهوري وأهداه مصحفا أثريا مكتوبا بماء الذهب ‏سنة 1973 وفي إندونيسيا تم تكريمه من ملك في ذلك الوقت .و"قرأ في القدس مرتين الأولى عام 1960 والثانية عام 1977" [10] في عهد الرئيس أنور السادات الذي اصطحبه معه‏ ليقرأ في صلاة الفجر بالمسجد الأقصى في عيد الأضحى المبارك، "كما كان أول قارئ سجل القرآن الكريم على اسطوانات ويعد ثاني أعظم قارئ لآيات الذكر الحكيم أنجبته الأرض العربية بعد شيخنا الجليل المغفور له الشيخ محمد رفعت" [11].
ونختم حديثنا عن معجزة التلاوة مصطفى إسماعيل بما قاله الناقد الفني المرموق الأستاذ كمال نجمي رحمه الله – "إن صوت الشيخ مصطفى إسماعيل كان أوسع مساحة وأكبر حجما من أصوات المقرئين جميعا، ولم يكن ممكنا وصف جمله وقوته في الثلاثينيات والأربعينيات، ومر صوته بمراحل متعاقبة من شبابه وحتى رحيله وكان أداؤه يساير هذه المرحلة فيجيئ منه في كل مرحلة مقرئ جديد ذو صوت جديد.. إنه قارئ فنان يبدأ بترتيب النغمات وينتقل من نغمة إلى أخرى، أو من مقام إلى آخر في سهولة ويسر مع الأداء المتميز والصوت الجميل وعلى يديه أشهر الكثير من الناس إسلامهم، بل إنه حين كان يذهب إلى بلد من بلدان العالم الإسلامي يتهافت عليه المستمعون، كقطب كبير يريدون أن يقبلوا أكمامه والأرض التي يسير عليها" [12].
تاريخ النشر: الخميس 19 يوليوز/تموز 2012
[1]محمود السعدنى - الحان من السماء الصفحة 132 / دار أخبار اليوم طبعة 1996.
[2]برنامج أوت جديد في عيد الأضحى المبارك صوات من السماء قناة الجزيرة الوثائقية/ الحلقة 14/ رمضان 2010.
[3]شكري القاضي عباقرة التلاوة في القرن العشرين ص 80.
[4]برنامج أصوات من السماء على قناة الجزيرة الوثائقية/ الحلقة 14/ رمضان 2010.
[5]شكري القاضي عباقرة التلاوة في القرن العشرين ص 80.
[6]محمود السعدنى - ألحان من السماء الصفحة 134 / دار أخبار اليوم طبعة 1996.
[7]برنامج أتوجراف تقديم طارق حبيب.
[8]شكري القاضي عباقرة التلاوة في القرن العشرين. ص 76.
[9]نفس المصدر ص 75.
[10]نفس المصدر ص 75.
[11]نفس المصدر ص 75.
[12]نفس المصدر ص80.

أصوات من السماء (1) الصوت الملائكي .. الشيخ محمد رفعت

أصوات من السماء (1)
الصوت الملائكي .. الشيخ محمد رفعت

بقلم: عثمان حنزاز
يقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه الدرامي عن البراء قال: "حسنوا القرآن بأصواتكم، فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسنا" . وروى أحمد وابن ماجة والدارمي عن سعد بن إبي وقاص قال: قال صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من لم يتغن بالقرآن" . وعن طاوس قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الناس أحسن صوتا للقرآن وأحسن قراءة قال: "من إذا سمعته يقرأ أريت أنه يخشى الله" رواه الدارمي.
كان من هؤلاء الذين زينوا أصواتهم بالقرآن وإذا سمعتهم يقرؤون القرآن أريت أنهم يخشون الله الشيخ محمد رفعت أمير المجودين وعميدهم، أعظم من قرأ القرآن في القرن العشرين، وصاحب الصوت الملائكي الذي أسر بصوته الجميل والخاشع قلوب الملايين من المسلمين وغير المسلمين، الذين تأثروا بقراءته الخاشعة والمفسرة لمعاني القرآن الكريم لفظا ومعنى، فكان أسلوبا فريدا في التلاوة. قال الكاتب الصحفي والاداعي ضياء الدين بيبرس "كان للخشوع في صوت الشيخ رفعت صدى عميق، فكأنه يعيد اكتشاف الإسلام في صدر المسلم مرة أخرى، ويفتح الباب على مصراعيه في صدر غير المسلم او حتى من لا يعرف العربية ولم ... وفي صوته بحة ذات شجن وقبل البحة يتجسد الخشوع بمعنى انك لا تشعر انه يتلو بقدر ما تشعر انه يسبح بحمد الله في كل آية يقراها، كان صوته نفاذا إلى قلب من يسمعه لأنه من قلبه وليس من حنجرته وعندما يتلو الشيخ رفعت القران تشعر انه يتيه به على العالمين" [1].
ولد الشيخ محمد رفت يوم الإثنين 9 ماي 1882 في حي "المغربلين" بالدرب الأحمر بالقاهرة، فقد بصره في السنة الثانية وعندما بلغ الخامسة من عمره دفع به أبوه "محمود بك" إلى كتّاب مسجد فاضل باشا بـ"درب الجماميز"، لحفظ وخدمة القرآن الكريم على يد أستاذيه السيخ محمد البغدادي والشيخ السمالوطي ، فأتم حفظه في السنة التاسعة من عمره وقبل بلوغه السادسة عشر من عمره تعلم التجويد ومنحت له شهادة إجادة حفظ القرآن وتجويده التي جاء فيها: "أنه وبعد أن قرأ علينا الشيخ محمد رفعت القرآن الكريم تلاوة وترتيلا ومجودا ومجزءا فقد منحته الاعتراف بأهليته لترتيل القرآن وتجويده" [2].
ثم بدأ الشيخ محمد رفعت بقراءة القرآن في المناسبات الاجتماعية والدينية، وفي كل يوم خميس يقرأ القرآن بالمسجد المقابل لمكتب فاضل باشا، حتى عين قارئا للسورة كل جمعة، وكان من شدة حلاوة صوته وعذوبة أداءه، امتلاء المسجد عن آخره بالمصلين حتى في الطرقات المؤدية إليه. يستمعون إلى صوته الملائكي. وظلَّ يقرأ القرآن ويرتله في هذا المسجد قرابة الثلاثين عامًا وفاءً منه للمسجد الذي بدأ فيه. ويصف الموسيقار "محمد عبد الوهاب" صوت الشيخ محمد رفعت بأنه ملائكي يأتي من السماء لأول مرة.
لم يكتف الشيخ محمد رفعت بما حفظه وتعلمه من شيخه بل اجتهد في تعلم علوم القراءة والتفسير حتى يعرف معاني الكلمات والآيات، ودرس الموسيقى و المقامات وتعلم قواعدها وأصولها، وكانت له مكتبة كبيرة من الأوبريت والسنفونيات العالمية كموسيقى "بتهوفن"، و"موزارت"، و"فاجنر"، وحفظ مئات الأدوار والتواشيح والقصائد الدينية.
فقد "كان صوته وفنه في التلاوة نفحة سماوية باهرة ملأت الدنيا وشغلت الناس ، ولم تترك لمعاصريه من المقرئين إلا مساحة متواضعة يتحركون فيها إلى جواره ، وكان صوت الشيخ رفعت فريدا في تكوينه ، فقد كان على صغر حجمه واسع المساحة معقد التكوين ،تجمع أوتاره الفذة بين القرار والجواب وجواب الجواب في لمح البصر كأنه فرقة موسيقية كاملة..." [3].
وقد ساعده على ذلك معاصرته للعديد من مشايخ القراءة والغناء العربي كالشيخ البربري وحنفي برعي والمناخلي وإسماعيل سكر... الذين استقى منهم الشيخ رفعت أسلوب التلاوة وطريقة الأداء. كما تشرب محمد رفعت من الشيخ أبو العلا محمد وعبده الحامولي ومحمد عثمان، حلاوة الصوت والنغم والانتقال عبر المقامات، فأخذ من كل واحد منهم ما يميزه عن الآخرين، فصنع لنفسه أسلوبا فريدا في الأداء حتى أصبح أول قارئ للقرآن في مصر كلها.
قال عنه الأديب "محمد السيد المويلحي" "سيد قراء هذا الزمن، موسيقيّ بفطرته وطبيعته، إنه يزجي إلى نفوسنا أرفع أنواعها وأقدس وأزهى ألوانها، وإنه بصوته فقط يأسرنا ويسحرنا دون أن يحتاج إلى أوركسترا" [4].
كان الشيخ رحمه الله أول من افتتح الإذاعة المصرية يوم الخميس 13 ماي 1934 بترشيح من البرنس محمد على الذي استمع إليه في أحد المآتم وأعجب بصوته وبأسلوب تلاوته الرائع وافتتح الإذاعة بقراءة سورة الفتح إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ، وقد سجل له قبل ذلك صديقاه زكريا باشا مهران صاحب بنك مصر والحاج محمد خميس التاجر الكبير المعروف في ذلك الوقت سورتي الكهف ومريم على أسطوانة.
تميز الشيخ محمد رفعت بالعطف والرحمة بالآخرين ومجالسته الفقراء والمحتاجين وببساطة عيشه وتواضعه وعفة نفسه وزهده فيما في أيدي الناس، فكان لا يأخذ أجرا على القراءة. ومن تعظيمه لكتاب الله لم يشأ أن يقرأ في الإذاعات أو يسجل القراءة في اسطوانات حتى استفتى الشيخ المراغي شيخ الأزهر في ذلك الوقت فأفتى له بجواز ذلك. وعَرض عليه الموسيقار محمد عبد الوهاب أن يسجِّل له القرآن الكريم كاملاً مقابل أي أجر يطلبه، فاعتذر الشيخ خوفًا من أن يمسَّ أسطوانة القرآن سكران أو جُنُب[5]. وتنافست كبريات إذاعات العالم آنذاك كإذاعة برلين ولندن وباريس على أن يسجلوا له إلا أنه كان يرفض، وكان من أقواله رحمه الله "أنا لا أبحث عن المال أبدًا، فإن الدنيا كلها عَرَضٌ زائل" .
يقول الشيخ القوصي: "عاش الشيخ محمد رفعت في بلده مصر لم يبرحها، ولم يستجب للبلاد الكثيرة التي طلبته بإلحاح شديد، فقد كان قانعا، ليس من همه جمع المال، وكان عفيفا يرفض ما يقدم إليه في مرضه على سبيل الهدايا أو العون" [6].
عرف عنه كثرة البكاء فكان يقرأ القرآن والدموع تنهمر من عينيه يتأثر بقراءته كل من استمع إليه، وكانت تحدث حالات من الوجد والإغماء من شدة التأثر بصوته الفريد، وقد أسلم على يديه الكثير ممن استمعوا إلى صوته الخاشع على جهلهم باللغة العربية، يقول الأستاذ أحمد البلك: "... وكانت بالمسجد شرفة علوية كبيرة، كان يجلس بها الأجانب يستمعون إلى صوت محمد رفعت الساحر، وبمجرد انتهائه من تلاوة القرآن كانوا يتسابقون في النزول لتقبيل يده، فمن خلال صوته وعلى يده أسلم الكثير" [7].
توفي الشيخ محمد رفعت -رحمه الله- يوم الاثنين 9 مايو 1950 بعد معاناته مع مرض الفُواق (الزغطة) الذي منعه من تلاوة القرآن والكلام وتسبب له في ورم في الحبال الصوتية، عن عمر يناهز ثمانية وستين عامًا، قضاها في رحاب القرآن الكريم وله من أبناء خمسة كان أحدهم يحفظ القرآن وكان صوته جميلا ولكنه لم يحترف القراءة. مخلفا تراثا فنيا في الإذاعة المصرية والعديد من الأشرطة التي مازالت تنتقل من جيل إلى جيل، فقد كان بحق صوت الشعب الذي اجتمعت علية كل فئات وطوائف مصر من مسلمين وأقباط وعشق صوته العديد من المسلمين في العالم، وأسلم على يده العديد من سمعوا صوته الملائكي. يقول الأستاذ محمود السعدنى "ليست هذه مبالغة، فسيد درويش ومحمد رفعت كانا زعيمين من طراز سعد -يقصد سعد زغلول-، وكما التقت طبقات الأمة وطوائفها حول سعد، وكما طربت بسيد درويش، تراها – وهنا العجب – تلتف حول رفعت بطوائفها ولم يحدث قط قبل رفعت أن استمع أقباط مصر إلى قارئ، بل إن استماعهم إليه كان بشغف وبحب وبإعجاب شديد. بل إن عظمة رفعت امتدت إلى خارج هذه الحدود..." [8].
وقد حضر لمأتم الشيخ محمد رفعت آلاف من المحبين والمعجبين بصوته من مختلف أنحاء العالم وقد نعته الإذاعة المصرية عند وفاته بقولها: "أيها المسلمون، فقدنا اليوم عَلَمًا من أعلام الإسلام" وعندما سمع مفتي سوريا بوفاته قال: "رحم الله شبابه فقد جدد شباب الإسلام" [9].
ونختم هذه النبذة التعريفية بالشيخ محمد رفعت، بما قاله الشيخ محمد متولي الشعراوي - رحمه الله - عندما سئل يومًا عن رأيه في كل من الشيوخ: محمود خليل الحصري، وعبد الباسط عبد الصمد، ومصطفى إسماعيل، ومحمد رفعت، فأجاب بقوله: "إذا أردنا أحكام التلاوة فهو الحصري، وإن أردنا حلاوة الصوت فهو عبد الباسط عبد الصمد، وإذا أردنا النَّفَس الطويل مع العذوبة فهو مصطفى إسماعيل، وإذا أردنا هؤلاء جميعًا فهو الشيخ محمد رفعت" [10].

[1]شكري القاضي عباقرة التلاوة في القرن العشرين.
[2]الشيخ عادل مسلم قصة حياة الشيخ محمد رفعت.
[3]الكاتب والناقد الكبير كمال النجمي مقدمة كتاب الشيخ محمد إسماعيل.
[4]الأديب محمد السيد المويلحي مجلة الرسالة.
[5]الشيخ عادل مسلم قصة حياة الشيخ محمد رفعت.
[6]احمد البلك أشهر من قرأ القران في العصر الحديث الصفحة 18/ دار المعرف القاهرة مصر.
[7]أحمد البلك أشهر من قرأ القران في العصر الحديث الصفحة 14 / دار المعرف القاهرة مصر.
[8]محمود السعدنى - ألحان من السماء الصفحة 17 / دار أخبار اليوم طبعة 1996.
[9]محمود السعدنى - الحان من السماء الصفحة 19 / دار أخبار اليوم طبعة 1996.
[10]احمد البلك أشهر من قرأ القران في العصر الحديث الصفحة 11 دار المعرف القاهرة مصر.

من قصص القرآن .. قصة أصحاب الرس

أصحاب الرس - قصة

من قصص القرآن .. قصة أصحاب الرس


قال تعالى في سورة الفرقان : {وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا} .

وقال تعالى في سورة ق : {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ 
وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ} .

القصة :

كان من قصتهم : أنهم كانوا يعبدون شجرة صنوبر ، يقال لها : (شاهدرخت) كان يافث بن نوح غرسها على شفير عين يقال لها : (روشنا آب) .

وإنما سموا أصحاب الرس لأنهم رسوا نبيهم في الأرض ، وذلك بعد سليمان عليه السلام وكانت لهم اثنتا عشرة قرية على شاطئ نهر يقال له : الرس من بلاد المشرق ، وبهم سمي النهر ، ولم يكن يومئذ في الأرض نهر أغزر منه ولا أعذب منه ولا قرى أكثر ولا أعمر منها .

وذكر عليه السلام أسماءها ، وكان أعظم مداينهم اسفندار وهي التي ينزلها ملكهم ، وكان يسمى تركوذ بن غابور بن يارش بن ساذن بن نمرود بن كنعان فرعون إبراهيم عليه السلام ، وبها العين الصنوبرة وقد غرسوا في كل قرية منها حبة من طلع تلك الصنوبرة وأجروا إليهانهرًا من العين التي عند الصنوبرة ، فنبتت الحبة وصارت شجرة عظيمة وحرموا ماء العين والأنهار ، فلا يشربون منها ولا أنعامهم ، ومن فعل ذلك قتلوه ، ويقولون : هو حياة آلهتنا فلا ينبغي لأحد أن ينقص من حياتنا ويشربون هم وأنعامهم من نهر الرس الذي عليه قراهم ، وقد جعلوا في كل شهر من السنة في كل قرية عيدًا يجتمع إليه أهلها فيضربون على الشجرة التي بها كلة من حرير فيها من أنواع الصور ثم يأتون بشاة وبقر فيذبحونها قربانًا للشجرة ، ويشعلون فيها النيران بالحطب ، فإذا سطع دخان تلك الذبائح وقتارها في الهواء وحال بينهم وبين النظر إلى السماء خرو سجدًا يبكون ويتضرعون إليها أن ترضى عنهم .

فكان الشيطان يجيء فيحرك أغصانها ويصيح من ساقها صياح الصبي أن قد رضيت عنكم عبادي فطيبوا نفسًا وقروا عينًا .

فيرفعون رؤوسهم عند ذلك ويشربون الخمر ويضربون بالمعازف ويأخذون الدستبند – يعني الصنج – فيكونون على ذلك يومهم وليلتهم ثم ينصرفون . 
وسميت العجم شهورها إشتقاقًا من تلك القرى .

حتى إذا كان عيد قريتهم العظمى إجتمع إليها صغيرهم وكبيرهم فضربوا عند الصنوبرة والعين سرادقًا من ديباج عليه من أنواع الصور وجعلوا له اثنا عشر بابًا كل باب لأهل قرية منهم ويسجدون للصنوبرة خارجًا من السرادق ويقربون لها الذبائح أضعاف ما قربوا للشجرة التي في قراهم .

فيجيء إبليس عند ذلك فيحرك الصنوبرة تحريكًا شديدًا ويتكلم من جوفها كلامًا جهوريًا ويعدهم ويمنيهم بأكثر مما وعدتهم ومنتهم الشياطين كلها فيحركون رؤوسهم من السجود وبهم من الفرح والنشاط ما لا يعيقون ولا يتكلمون من الشرب والعزف فيكونون على ذلك اثنا عشر يومًا لياليها بعدد أعيادهم سائر السنة ثم ينصرفون 
فلما طال كفرهم بالله عز وجل وعبادتهم غيره ، بعث الله نبيًا من بني إسرائيل من ولد يهودا بن يعقوب ، فلبث فيهم زمانًا طويلا يدعوهم إلى عبادة الله عز وجل ومعرفة ربوبيته ، فلا يتبعونه .

فلما رأى شدة تماديهم في الغي وحضر عيد قريتهم العظمى ، قال : يا رب ان عبادك أبوا إلا تكذيبي وغدوا يعبدون شجرة لا تضر ولا تنفع ، فأيبس شجرهم اجمع وأرهم قدرتك وسلطانك . فأصبح القوم وقد أيبس شجرهم كلها ، فهالهم ذلك ، فصاروا فرقتين ..
فرقة قالت : سحر آلهتكم هذا الرجل الذي زعم أنه رسول رب السماء والأرض إليكم ليصرف وجوهكم عن آلهتكم إلى إلهه .

وفرقة قالت : لا .. بل غضبت آلهتكم حين رأت هذا الرجل يعيبها ويدعوكم إلى عبادة غيرها فحجب حسنها وبهاؤها لكي تغضبوا لها . 

فتنصروا منه وأجمع رأيهم على قتله ، فاتخذوا أنابيب طوالا ونزحوا ما فيها من الماء ، ثم حفروا في قرارها بئرًا ضيقة المدخل عميقة وأرسلوا فيها نبيهم ، وألقموا فاها صخرة عظيمة ، ثم أخرجوا الأنابيب من الماء وقالوا : نرجوا الآن أن ترضى عنا آلهتنا إذا رأت إنا قد قتلنا من يقع فيها ويصد عن عبادتها ودفناه تحت كبيرها يتشفى منه فيعود لنا نورها ونضرتها كما كان .
فبقوا عامة يومهم يسمعون أنين نبيهم عليه السلام وهو يقول : سيدي قد ترى ضيق مكاني وشدة كربي ، فارحم ضعف ركني ، وقلة حيلتي ، وعجل بقبض روحي ولا تؤخر إجابة دعوتي ، حتى مات . 

فقال الله جل جلاله لجبرائيل عليه السلام : أيظن عبادي هؤلاء الذين غرهم حلمي وأمنوا مكري وعبدوا غيري وقتلوا رسولي أن يقوموا لغضبي أو يخرجوا من سلطاني كيف وأنا المنتقم ممن عصاني ولم يخش عقابي ، وإني حلفت بعزتي لأجعلنهم نكالًا وعبرة للعالمين .

فلم يرعهم وهم في عيدهم ذلك إلا بريح عاصف شديد الحمرة ، فتحيروا فيها وذعروا منها وتضام بعضهم إلى بعض ، ثم صارت الأرض من تحتهم حجر كبريت يتوقد وأظلتهم سحابة سوداء ، فألقت عليهم كالقبة جمرًا يلتهب ، فذابت أبدانهم كما يذوب الرصاص بالنار . 
فنعوذ بالله تعالى من غضبه ونزول نقمته ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .

وفي كتاب (العرائس) : 
أهل الرس كان لهم نبي يقال له حنظلة بن صفوان وكان بأرضهم جبل يقال له فتح مصعدا فيالسماء سيلا ، وكانت العنقا تتشابه وهي أعظم ما يكون من الطير وفيها من كل لون . وسموها العنقا لطول عنقها وكانت تكون في ذلك الجبل تنقض على الطير تأكل ، فجاءت ذات يوم ، فأعوزها الطير ، فانقضت على صبي فذهبت به ، ثم إنها انقضت على جارية فأخذتها فضمتها إلى جناحين لها صغيرين سوى الجناحين الكبيرين . فشكوا إلى نبيهم ، فقال : اللهم خذها واقطع نسلها فأصابتها صاعقة فاحترقت فلم ير لها أثر ، فضربتها العرب مثلا في أشعارها وحكمها وأمثالها .

ثم أن أصحاب الرس قتلوا نبيهم ، فأهلكهم الله تعالى ، وبقي نهرهم ومنازلهم مائتي عام لا يسكنها أحد . 
ثم أتى الله بقرن بعد ذلك فنزلوها ، وكانوا صالحين سنين ، ثم أحدثوا فاحشة جعل الرجل يدعوا ابنته وأخته وزوجته فيعطيها جاره وأخاه وصديقه يلتمس بذلك البر والصلة . 
ثم ارتفعوا من ذلك إلى نوع أخزى ، ترك الرجال للنساء حتى شبقن واستغنوا بالرجال ، فجاءت شيطانتهن في صورة امرأة وهي الدلهات كانتا في بيضة واحدة فشهت إلى النساء ركوب بعضهن بعضًا وعلمتهن كيف يضعن ، فأصل ركوب النساء بعضهن بعضًا من الدلهات .

فسلط الله على ذلك القرن صاعقة في أول الليل وخسفًا في آخر الليل وخسفًا مع الشمس ، فلم يبق منهم باقية وبادت مساكنهم ، وأحسبها اليوم لا تسكن .

تحياتي إليكم ..
 عزمي عبدالله محمود عمران
 Azmi Abdullah Mahmood Omran