الأربعاء، 9 أكتوبر 2013

البغدادي والتاجر الخرساني


البغدادي والتاجر الخرساني



من قصص الفرج بعد الشدة


روى التنوخي في الفرج بعد الشدة عن بعض تجار الكرخ ببغداد قال :

كنت أعامل رجلاً من الخراسانية ، أبيع له في كل موسم متاعاً ، فأنتفع من سمسرته بألوف الدراهم .

فلما كان سنة من السنين تأخر عني ، فأثر ذلك في حالي ، وتواترت علي محن ، فأغلقت دكاني وجلست في بيتي ، مستتراً من دين لحقني ، أربع سنين .


فلما كان في وقت الحاج ، تتبعت خبر الخراساني ، طمعاً في إصلاح أمري به ، فمضيت إلى سوق فلم أحصل له خبراً ، فرجعت وأنا تعب مغموم ، وكان يوماً حاراً ، فنزلت إلى نهر دجلة ، فتغسلت ، وصعدت ، فابتل موضع قدمي ، فقلعت رجلي قطعة من الرمل، وانكشفت عن سير "خيط" .


فلبست ثيابي ، وجلست مفكراً أولع بالسير ، فلم أزل أجره حتى ظهر لي هميان "ما يوضع فيه المال" موصول به ، فأخذته ، فإذا هو مملوء دنانير ، فأخفيته تحت ثيابي ، ووافيت منزلي ، فإذا فيه ألف دينار .


ففرحت نفسي فرحة شديدة ، وعاهدت الله عز وجل ، أنه متى صلحت حالي ، وعادت ، أن (أعرف الهميان) فمن أعطاني صفته رددته عليه .


واحتفظت بالهميان ، وأصلحت أمري مع غرمائي ، وفتحت دكاني ، وعدت إلى عملي في التجارة والسمسرة ، فما مضت إلا ثلاث سنين حتى حصل في ملكي ألوف الدنانير .

وجاء الحج ، فتتبعتهم لأعرف الهميان ، فلم أجد من يعطيني صفته ، فعدت إلى دكاني ، فبينما أنا جالس ، إذا رجل قائم حيال دكاني ، أشعث أغبر ، وافي السبال ، في خلقة فقراء الخراسانية وزيهم فظننته سائلاً ، فأومأت إلى دريهمات لأعطيه ، فاسرع الإنصراف ، فارتبت به ، فقمت ، ولحقته ، وتأملته ، فإذا هو صاحبي الذي كنت أنتفع بسمسرته في السنة بألوف الدراهم ..

فقلت له : يا هذا ، ما الذي أصابك ؟.. وبكيت رحمة له .
فبكى ، وقال : حديثي طويل .
فقلت : البيت ، وحملته إلى منزلي ، فأدخلته الحمام ، وألبسته ثياباً نظافاً ، وأطعمته ، وسألته عن خبره .
فقال : أنت تعرف حالي ونعمتي ، وإني أردت الخروج إلى الحج في آخر سنة جئت إلى بغداد ، فقال لي أمير البلد :عندي قطعة ياقوت أحمر كالكف ، لا قيمة لها عظماً وجلالةً ، ولا تصلح إلا للخليفة ، فخذها معك ، فبعها لي ببغداد ، واشتر لي من ثمنها متاعاً طلبه ، من عطر ، وطرف ، بكذا وكذا ، وأحمل الباقي مالاً .
فأخذت قطعة الياقوت ، وهي كما قال ، فجعلتها في هميان جلد ، من صفته كيت وكيت ، ووصف الهميان الذي وجدته ، وجعلت في الهميان ألف دينار عيناً من مالي ، وحملته في وسطي .
فلما جئت إلى بغداد ، نزلت أسبح عشياً في الجزيرة التي بسوق يحيى ، وتركت الهميان وثيابي بحيث ألاحظها .


فلما صعدت من دجلة ، لبست ثيابي عند غروب الشمس ، وأنسيت الهميان ، فلم أذكره إلى أن أصبحت ، فعدت أطلبه ، فكأن الأرض ابتلعته .. فهونت على نفسي المصيبة ، وقلت : لعل قيمة الحجر ثلاثة آلاف دينار ، أغرمها له .

فخرجت إلى الحج ، فلما رجعت ، حاسبتك على ثمن متاعي ، واشتريت للأمير ما أراده ، ورجعت إلى بلدي ، فأنفذت إلى الأمير ما اشتريته ، وأتيته ، فأخبرته بخبري .. وقلت له : خذ مني تمام ثلاثة آلاف دينار ، عوضاً عن الحجر .فطمع فيّ ، وقال : قيمته خمسون ألف دينار ، وقبض علي ، وعلى جميع ما أملكه من مال ومتاع ، وأنزل بي صنوف المكاره ، حتى أشهد علي في جميع أملاكي ، وحبسني سبع سنين ، كنت يردد علي فيها العذاب .. فلما كان في هذه السنة ، سأله الناس في أمري ، فأطلقني .
فلم يمكنني المقام ببلدي ، وتحمل شماتة الأعداء ، فخرجت على وجهي ، أعالج الفقر ، بحيث لا أعرف ، وجئت مع الحج الخراساني ، أمشي أكثر الطريق ، ولا أدري ما أعمل ، فجئت إليك لأشاورك في معاش أتعلق به ؟!..


فقلت : قد رد الله عليك بعض ضالتك ، هذا الهميان الذي وصفته ، عندي ، وكان فيه ألف دينار أخذتها ، وعاهدت الله تعالى ، أنني ضامنها لمن يعطيني صفة الهميان ، وقد أعطيتني أنت صفته ، وعلمت أنه لك ، وقمت ، فجئته بكيس فيه ألف دينار ..
وقلت له : تعيش بهذا في بغداد ، فإنك لا تعدم خيراً إن شاء الله .
فقال لي : يا سيدي الهميان بعينه عندك ، لم يخرج عن يدك ؟.. 

قلت : نعم .
فشهق شهقة ، ظننت أنه قد مات معها ، وغشي عليه .. فلما أفاق بعد ساعة ..

قال لي : أين الهميان ؟!..
فجئته به ، فطلب سكيناً ، فأتيته بها ، فخرق أسفل الهميان ، وأخرج منه حجر ياقوت أحمر ، أشرق منه البيت ، وكاد يأخذ بصري شعاعه ، وأقبل يشكرني ، ويدعو لي .


فقلت له : خذ دنانيرك .
فحلف بكل يمين ، لا يأخذ منها إلا ثمن ناقة ، ومحمل ، ونفقة تبلغه ، فبعد كل جهد أخذ ثلثمائة دينار ، وأحلني من الباقي ، وأقام عندي ، إلى أن عاد الحجاج ، فخرج معهم ..
فلما كان العام المقبل ، جاءني بقريب مما كان يجيئني به سابقاً من المتاع ..
فقلت له : أخبرني خبرك .
فقال : مضيت ، فشرحت لأهل البلد خبري ، وأريتهم الحجر ، فجاء معي وجوههم إلى الأمير ، وأعلموه القصة ، وخاطبوه في إنصافي ، فأخذ الحجر ، ورد علي جميع ما كان أخذه مني ، من متاع ، وعقار ، وغير ذلك ، ووهب لي من عنده مالاً .
وقال : اجعلني في حل مما عذبتك وآذيتك ، فأحللته .
وعادت نعمتي إلى ما كانت عليه ، وعدت إلى تجارتي ومعاشي بفضل الله تعالى ..
وكان يجيئني بعد ذلك ، حتى مات .
قال ابن المبارك:


ما أقرب الأشياء حين يسوقها ... قدرٌ وأبعدها إذا لم تقدر


اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ وَجَمِيعِ سَخَطِكَ



 {[ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ]}
إلهي لكـ الحمد والشكر نستغفركـ ياعفو ياغفور 
 إضافة تقييم لـ RAWAN RNOSH

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق